و اليوم وقد رحل الرجلان دون تنزيل المقترح لأرض الواقع ، تقبل الحكومة على مشروع لتعديل قانون الجنسية السودانية يخفض مدة منحها بالتجنس من عشرة اعوام الى خمسٍ مع اعطاء الهوية للابناء المولودين لأم سودانية ، وذلك وفقا لما كشفه مدير ادارة السجل المدنى بوزارة الداخلية ، اللواء آدم دليل (الصحافة 29 أكتوبر) ، حيث يشى المشروع لدى النظرة الاولى بأن الدافع وراء التعديل هو ان البلاد تواجه اشكالا فى تدنى نسبة سكانها بما يقتضى ذلك التنازل غير المحسوب بدقة حسبما عبر عنه اللواء آدم دليل نفسه حينما افصح عن استحسانه للقانون القديم بقوله إنه (كان أفضل من الناحية الفنية حيث يشترط مضي عشرة أعوام للتجنس لضمان ولاء الشخص، خاصة وأن القانون السوداني يسمح بإزدواج الجنسية غير أنه كان يساوي بين المواطنين والمجنسين في الحقوق، ماعدا القليل منها) . و مع ان اللواء دليل لم يوضح الدوافع وراء التعديل و خفض مدة منح الجنسية ، الا ان أحاديثَ سابقة لمسؤولين رفيعين فى الحكومة تبين ان قلة السكان فى مناطق بعينها من البلاد تمثل احد الاسباب الى جانب اسباب اخرى لا تقل اهمية عن ذلك . فقد صرح وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين فى مارس الماضى لدى مخاطبته لجمع من السودانيين من اهالى الولاية الشمالية المقيمين بالرياض ان (قلة السكان بالولاية الشمالية تمثل تهديدا للأمن القومى) . لكن مخاوف وزير الدفاع من تهديد محتمل للامن القومى تجاوزت قلة السكان الى نوعيتهم، فقد ألحق حديثه ذاك وفقا لما نقلت صحيفة (السودانى) فى ذلك الوقت بإشارة الى إزدياد معدلات الهجرة الوافدة من غرب افريقيا الى البلاد .
و كان الفريق اول عبد الرحيم محمد حسين اكثر افصاحا حول رؤية حكومته الى الحراك السكانى قلته و نوعيته حينما كان وزيرا للداخلية وذلك من خلال حديثه الى نخبة مختارة من المثقفين و الكتاب المصريين بمركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة فى يناير 2005 ، و قد لخص اللقاء و نشره فى المجلة الخاصة بالمركز فى الرابع عشر من ذات الشهر الباحث المختص فى شؤون السودان ، هانى رسلان وقد قال الوزير فى ذلك اللقاء بوضوح : (انه في ظل نقص السكان في شمالي السودان نجد ان هناك هجرات مستمرة من غرب افريقيا وصلت الى سبعة ملايين و نصف المليون افريقي استقرت بدارفور بينما نجد ان مجموع المصريين في السودان لا يتجاوز عشرين الفا وان هذا وضع غير طبيعي ) . و قد كان حديث الوزير فى سياق حثه للحكومة المصرية على ابتدار توجه استراتيجى نحو الجنوب انفاذا لاتفاق الحريات الاربعة ، حيث اجتهد فى تبيين المغريات التى تجعل ذلك التوجه المصرى مفيدا لمصر اولا و للسودان خاصة فى مجالات الاستثمار الزراعى و مواجهة ازمة الانفجار السكانى و ضيق الاراضى الزراعية فى مصر و كيف ان اراضٍ شاسعة صالحة للزراعة فى ولايات الشمالية و القضارف و الجزيرة يمكن ان تمثل خيارا جاذبا لتوطين العمالة ورأس المال المصرى ، و قد ربط الوزير حديثه ذاك بالتعديلات المرتقبة على قانون الجنسية السودانى التى تمنح الجنسية للمقيمين فى الاراضى السودانية بعد خمس سنوات بدلا من عشرٍ و السماح فى الوقت نفسه بإزدواج الجنسية . وذكر الوزير ان حدود السودان مفتوحة مع 7 من الدول الافريقية التى تجاوره ما عدا مصر وليبيا وان السودان عنده حدود مع تشاد تبلغ 0018 كلم وان هناك 18 قبيلة مشتركة تتحرك على الحدود، وان الوقت قد حان لبدء التعاون مع مصر. لكن مدير ادارة السجل المدنى بوزارة الداخلية ، اللواء آدم دليل فى حديثه آنف الذكر اشار ( لوجود فهم مغلوط في مسألة القبائل الحدودية والمشتركة مؤكدا أن القانون لايتحدث عن قبائل، لكن اشتراطات قانونية ولا يميز عند التحقيق لاستخراجها بين قبيلة واخرى، واضاف :لا نتعامل مع القبيلة كمجموعة واحدة لكن نتعامل مع كل حالة بشكل منفرد) .
و يكشف حديث وزير الداخلية السابق عن قلق دفين لدى الحكومة من اختلال التوازن الديمغرافى فى البلاد و بالتالى تأثيراته المستقبلية على هوية البلاد و امنها القومى وفقا للمحددات و التصور السائد لمفهوم الامن القومى ، و قد عبر عن ذلك الرئيس البشير للمبعوث الامريكى السابق ، اندرو ناتسيوس فى حديث خاص بأنه يتوقع ان يكون آخر رئيس عربى للبلاد . و غير البشير فإن قادة من المعارضة الشمالية قد افصحوا عن مخاوف مماثلة للتى عبر عنها الرئيس البشير وذلك لدى اجتماعاتهم فى الغرف المغلقة مع ناتسيوس وفقا لما اورده فى مقاله الشهير (ما وراء دارفور) الذى نشره بمجلة شؤون خارجية فى مايو الماضى .
وكان مدير جهاز الامن و المخابرات ، الفريق صلاح عبد الله قد كشف خلال حديثه فى ورشة (الوجود الأجنبى و أثره على الأ من القومى) التى نظمتها لجنة الأمن و الدفاع بالبرلمان نهاية مارس الماضى عن وجود مجموعات من دول الجوار انتقلت للاستقرار في السودان بنظاراتها ، مشيرا الى ان العوامل التي ادت إلى ازدياد التواجد الاجنبي في البلاد منها الحروب في دول الجوار والحرب الاهلية في دارفور والجنوب واكتشاف البترول والمساحات المفتوحة وغياب السجل المدني وتأخر الاحصاء السكاني .
وقد اعتبرت الاستراتيجية ربع القرنية التى اجيزت مؤخرا قلة السكان مع اتساع رقعته الجغرافية مهددا للامن القومى ، و لكنها لم تخض فى امر التوازن السكانى صراحة . و رغم ان الحفاظ على التوازن الديمغرافى للسكان فى اى بلد امر مشروع حيث سن الكونغرس الامريكى تشريعا منذ سنوات قضى باستجلاب 55 ألف مهاجر سنويا من بلدان بعينها و توطينهم بالولايات المتحدة فيما عرف (باللوترى) و كذلك تفعل بلدان مثل كندا لمواجهة نقص السكان و استراليا و نيوزيلندة و غيرها ، رغم ذلك الا انه يتم وفقا لقوانين يسنها البرلمان بعد مناقشة عامة فى قنوات الحوار المختلفة داخل اجهزة الدولة و مفاعلاتها الاجتماعية و الفكرية المختلفة و بشفافية عالية ، وقد عبر عن ذلك الكاتب الصحفى المعروف مصطفى عبد العزيز البطل فى مقال بعنوان (فى بيتنا رجل مصرى) نشره بصحيفة الأحداث 3 يوليو الماضى متناولا فيه مشروعية المبدأ على خلفية الأحاديث التى تتواتر عن توطين ملايين المصريين فى اراضٍ سودانية و لكنه دعا الى طرح الأمر فى المنابر المشرعة حتى يقول السودانيون كلمتهم بما يرفع الحرج عن الحكومة لخوضها فى امر يخص مستقبل جميع السودانيين ، و قد وجد المقال حظه من التداول فى صحف و منابر عربية و مصرية و تناوله كتاب وصحافيون مصريون بطريقة قادحة بينهم نائب رئيس مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية ، الدكتور محمد السيد سعيد الذى نحا بفهمه للمقال منحىً بعيدا و قال ان مصر ليست معنية بمسألة التوازن الإثنى فى السودان داعيا المثقفين و المفكرين للتصدى بالرد على البطل . الامر الذى اضطر البطل للتعقيب عليه مع آخرين فى مقال لاحق ضمنه توضيحات و معلومات تؤكد تحليله السابق من ان الاقتراب الحكومى من مصر ينطلق من افق الحفاظ على التوازن الديمغرافى فى البلاد . وهو ما عادت و نفته الباحثة المتخصصة فى السودان الدكتورة أمانى الطويل فى مقال نشر فى سبتمبر الماضى بصحيفة (الأخبار) .
و المخاوف التى تحيط بتخفيض مدة التجنس فى السودان الى خمسة اعوام تدخل فى صميم ما دعا له البطل من اعتماد مبدأ الشفافية فى الأمر حيث ان للدارفوريين من ضحايا الصراع الدائر فى دارفور مخاوفهم المتمثلة فى قدوم مجموعات اثنية من بلدان مجاورة واخرى بغرب افريقيا كان لها مصلحة فى الصراع الناشب و استيطانها فى اراضيهم خاصة اراضى مجموعات الفور و المساليت و الزغاوة وهى اكثر المجموعات تضررا من الصراع الدائر فى الاقليم ، فعم يخشون من ان تضم نتائج التعداد السكانى هؤلاء الوافدين الى نسبة السكان فى الاقليم بينما تأتى اجراءات السجل المدنى لتضيفهم الى المستندات الرسمية على اعتبارهم سودانيين بما يمنحهم الحق فى تملك الاراضى التى وضعوا ايديهم عليها بقوة السلاح ، فالسجل المدنى يعتمد بشكل كبير على نتائج التعداد السكانى التى لم تعلن بعد . و نفس الذى يقال عن دارفور يمكن ان يقال فى ما يذاع عن توطين ملايين المصريين فى الشمالية و الجزيرة و القضارف ليس كمستخدمين و مستثمرين و انما كمواطنين وفقا لطرح وزير الداخلية السابق بمركز الأهرام و تزداد المخاوف من ان يصبح الوافدون الجدد جزءا من المشروع الانتخابى للمؤتمر الوطنى الذى يسيطر على جهاز الدولة سيطرة تامة و بالتالى يتحكم بالمسطحات الجغرافية وفى توزيع الكثافة السكانية داخل البلاد وفقا لنتائج التعداد وفى منح المستندات الرسمية للمواطنين ، و يتضافر مع ذلك الاحاديث المتواترة عن تأجيل الانتخابات الى ما بعد الاستفتاء أو الى العام 2010 كما ذهبت الى ذلك مجموعة الازمات الدولية فى تقريرها الصادر الشهر الماضى عن الاوضاع بجنوب كردفان .
اللواء آدم دليل قال ان الاقبال على طلب الجنسية السودانية عالٍ و ان هناك رعايا دول كبرى بين المتقدمين ، فيما ذكر الفريق صلاح عبد الله فى حديثه آنف الذكر ان (عدد الذين منحو جنسية سودانية حتى 2006م بلغ 42 ألفا و 212) وربما كان ذلك دافعا لتغيير وجهة النظر الرسمية لاعتماد ما اشار اليه اللواء دليل حينما فضل القانون القديم الذى يمنح الجنسية بعد اقامة شرعية بالبلاد تمتد الى عشرة اعوام لاختبار ولاء الشخص المقيم و فى نفس الوقت طرح الأمر للتداول على مستوىً واسع اعمالاً لمبدأ الشفافية الذى دعا له البطل !! .
المحرر السياسى :الصحافة [/ALIGN]