إنّ أكثر ما يشدّنا إلى الأجيال السابقة هو عاطفة مشوبة بغموضٍ يكمن في كم كانت تلك الأجيال مُجيدة ومبدعة لأغلب ما تقوم به من أعمال. يعني لي هذا التفاوت بين الأجيال الكثير، وبنفس القدر الذي أحس فيه بفجوة عميقة تُبعد ما بيننا ومن سبقونا كما تُبعد ما بين أبنائنا وبيننا في نفس الوقت. الآن حين تقرأ في وجوه الجيلين تحس بإحساسين متناقضين. الأول أقرب للمثالية واليقين والثاني يشوبه النقص والتوهان.
طرأ هذا الطيف على خاطري حين اطلعت على تقرير لأحد الباحثين المتخصصين في اللغة ذكر فيه: «إنّ اللغة العربية التي ينطق بها مئات الملايين تحتل المرتبة العاشرة في العالم من حيث الاستخدام وذلك في مؤشر على ضعفها بسبب الضعف الذي تعيشه الأمة العربية». وهذا ليس رأيه وحده فكثير من المهتمين باللغة العربية يشاهدونها الآن وهي في أوج أزماتها، ليس لشيء في طبيعتها فهي مرنة بالقدر الذي يجعلها متطورة على الدوام، ولكن كل ما في الأمر أنّ هذا الجيل يأنف عن استخدام اللغة العربية وفي نفس الوقت لايتقن غيرها فأصبح ضائعاً بين اللغات وخرجت من هذه الحالة لغة غير مسماة لا شكل لها ولا لون ولا طعم، بل هي خليط من اللغة العربية في نسختها الضعيفة واللغات الأجنبية في نسختها العامية المأخوذة من الأفلام وأغاني الراب.
لايستطيع عاقل إنكار أنّه من المهم جداً الإلمام باللغات. فالاهتمام باللغة العربية فضلاً عن أنها اللغة الأم فهي تعكس جانباً عاطفياً يتعلق بالهوية، والإلمام باللغات الأجنبية خاصة اللغة الإنجليزية اللغة الأولى في العالم واللغات الأخرى كموصل للثقافات والحضارات المختلفة.
المشكلة في الجيل الحالي أنّه لا هو أتقن لغته الأم ولا استطاع النهل من بحور اللغات الأخرى، بل الفهم السائد هو التشدق ببعض المصطلحات والكلمات من هنا وهناك ادّعاءَ العلم والمعرفة. وفي هؤلاء لم أجد أكثر تعبيراً من قول نزار قباني عن هذه الفئة في كتابه (الكتابة عمل انقلابي):
«إن اللغة العربية تضايقهم لأنهم لا يستطيعون قراءتها، والعبارة العربية تزعجهم لأنهم لا يستطيعون تركيبها، وهم مقتنعون أنّ كل العصور التي سبقتهم هي عصور انحطاط، وأنَّ كل ما كتبه العرب من شعر منذ الشنفرى حتى اليوم، هو شعر رديء ومنحط. تسأل الواحد منهم عن المتنبي، فينظر إليكَ باشمئزاز كأنك تحدثه عن الزائدة الدودية، وحين تسأله عن (الأغاني) و (العقد الفريد) و (البيان والتبيين) و (نهج البلاغة) و (طوق الحمامة) يرد عليك بأنه لايشتري أسطوانات عربية ولايحضر أفلاماً عربية، إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب، ويريدون أن يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء، ويبشرون بثورة ثقافية تحرق الأخضر واليابس، وثقافتهم لاتتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه، وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها».
إنّ العلاقة بين اللغة العربية وأمة اقرأ ليست علاقة عاطفة وجدانية فحسب، وإنما علاقة انتماء فكري وثقافي واجتماعي، لا من حيث الممارسة الخاصة باللغة وإنما من حيث علاقتها من منطق إضافة استخدامها كواقٍ من بعض مظاهر الاستلاب. وذلك فضلاً عن أنّ التعبير بها أصالة يدخل في باب التشبع بها الذي يختلف اختلافاً كبيراً عن اكتساب مهارات أي لغة ثانية.
كل من يعرف اللغة العربية يحسها روحاً حية قوية تطرب الأسماع ومرنة تسعى بين الناس تعبّر عما يكنّونه من أحاسيس ومن أفعال ونوايا. وليس الأمر مقتصراً على المختصين في اللغة العربية، لأنّ لها مريدين من كل الفئات. ففي كتاب الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جنِّي أحد أبرز علماء فقه اللغة العربية في القرن الرابع الهجري، تعريف للغة يقول فيه: «حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم». وأما في كتابه (الخصائص) والذي يُعدّ أحد أشهر الكتب التي كتبت في فقه اللغة وفلسفتها، وأسرار العربية ووقائعها، يقول في مقدمة كتابه عنه: «كتاب لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحظاً له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه واداً أن أجد مهملاً أقيله به، أو خللاً أرتقه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضيقاً، ولاينهج إلى الابتداء طريقاً، هذا مع إعظامي له، وإعصامي بالأسباب المناطة به، واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر، وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة».
مشكلة هذا الجيل الغارق في الأسلوب التغريبي، لم يتخذ اللغة وحدها منهاجاً له وإنما أخذ معها طريقة اللبس والأكل والتفكير حتى أصبحت المشكلة مشكلة هوية وهي أيضاً كائن حي تطوره عوامل عديدة منها اللغة. من الممكن أن تتأثر الهوية كما اللغة بناءً على التأثير والتأثر والتغيير وهو سنة الكون ولكن تظل الثوابت وهي الصفات الجوهرية التي يتم بها التمييز بين لغة وأخرى وبين هوية وأخرى.
وليس الأسلوب الغربي وحده فحتى اللهجات العامية المتفاوتة من بلد إلى آخر غشاها كثير من التحوير والتشويه. ولعل تجربة المسلسلات التليفزيونية المدبلجة إلى اللهجة العامية عكست جانباً سيئاً في النقل، وذلك ليس بسبب المحاباة للغة العربية وإنما لأن فرض لهجة معينة كأساس للدبلجة هو الذي يجعلها تقتحم شاشاتنا دونما استئذان. لن يكون بالطبع هناك إلزام أخلاقي بضرورة دبلجة هذه الأعمال إلى اللغة العربية الفصحى لأنّ الأمر يبدو صعباً بعض الشيء وذلك بسبب أنّ اللهجة العامية هي لغة التواصل اليومي.
إنّ الترفع عن استخدام اللغة العربية بسبب عدم الثقة بالذات وعدم التصالح مع الهوية والأصل، والفشل في استخدام لغة أخرى أدى إلى استخدام لغة هجين لا هي عربية ولا إنجليزية هذا في الحوارات الشفاهية. أما في الرسائل عبر وسائل الاتصال الحديثة والهواتف الجوالة فبلغ الاختصار مداه بأن استبدلت الأحرف بأرقام لاتينية يتبع متداولوها طريقة معينة في التعامل بها.
لم يكتفِ الجيل الحالي بضعفه الذاتي وإنما عمّق من هذا الاتجاه بالاستعانة بغريب الألفاظ ومعاقرة الوسائل الأكثر ضعفاً. ولو كان أبو عمرو عثمان الجاحظ بيننا لسدّد ضربة قاضية لهؤلاء تحكي عن حالهم بمقولته الشهيرة في مؤلفه (البيان والتبيين): «ولو جالَسْتَ الجُهّالَ والنَّوْكى، والسُّخَفاءَ والحمقَى، شهرًا فقط، لم تنْج من أوضارِ كلامِهم، وخَبَالِ معانيهم، بمجالَسة أهل البيان والعقل دهرًا، لأنّ الفسادَ أسرعُ إلى النَّاس، وأشدُّ التحامًا بالطبائع. والإنسانُ بالتّعلُّم والتكلُّف، وبطُول الاختلاف إلى العلماء، ومدارَسَةِ كُتُبِ الحكماء، يَجُودُ لفظُه ويحسُن أدبُه، وهو لايحتاج في الجهل إلى أكثَرَ من ترك التعلُّم، وفي فساد البيان إلى أكثَرَ من ترك التخيُّر».
منى عبد الفتاح
الشرق