طريق الوجع والمعالجة الغالية

[JUSTIFY]حينما بدأت آثار سياسة الإنقاذ الاقتصادية تظهر نتائجها، قال المهدي عن عرَّاب تلك السياسات: “لا أدري ماذا كان سيفعل لو كان اسمه عبدالجبار؟!”.

لكن عبدالرحيم حمدي نفسه وفي عددٍ من اللقاءات كان يُلقي باللائمة، فيما حدث على الطريقة التي نفذت بها الإنقاذ وصفته تلك، والتي ظلت موازنتها العامة طوال تاريخها موازنة حرب تقتفي صرف جل الواردات على الأمن والدفاع.

دمغة الفشل ما قاله حمدي يمكن أن يؤخذ على الإنقاذ، كما يؤخذ عليها أيضاً تطبيقها لسياسات إعادة الهيكلة والتكيُّف الاقتصادي في ظل نظام شمولي، في حين أن الحرية الاقتصادية تتطلب الحرية السياسية، حتى يستطيع المجتمع عبر التدافع السياسي أن يخلق نوعاً من التوازن في مستويات المعيشة.

الأمر الذي كان سيخفف من الآثار المشار إليها دون أن يجففها. لأن القضاء على ظاهرة الفقر والتفاوت في مستوى المعيشة لم تحدث حتى في الديمقراطيات الراسخة إلا بعد تدخل الدولة لصالح الشرئح الضعيفة.

وعليه تذهب سخرية الصادق المهدي أدراج الرياح حين تجيء اتفاقية جيبوتي التي أبرمها حزبه مع الإنقاذ متضمنة لاقتصاد السوق الحر دون إشارة لتدخل الدولة أو توضيحات من هذا القبيل، مما يشير إلى أنه لا يختلف مع الإنقاذ حول أساسيات برنامجها المسؤول وبشكل أساسي عن فشل الدولة في القيام بمهامها وعن حالة التفكك التي تعيشها بلادنا، مما يشير إلى أننا نعيش أزمه بديل حقيقي لتلك السياسات الاقتصادية.

دولة الرعاية الاجتماعية في المسودة التي أعدها حمدي تحت عنوان: (دولة الرعاية الاجتماعية.. الضرورة، التحديات والفرص) في الخرطوم بتاريخ أكتوبر 2011.

يتم التعرُّض لأفكار مهمة من مهام الدولة بعقد مقارنة بين دولة الرعاية العامة بتوجهها الاقتصادي القائم على اقتصاد السوق الاجتماعي -كما تتبناه المدرسة الاجتماعية الديمقراطية، وبين الليبرالية الجديدة التي تنهج اقتصاد السوق الحر.

ويتوصل من خلال البحث إلى أن اقتصاد السوق الحر لا يمكِّن الدولة من تحقيق أهدافها التي أنشئت من أجلها والتي يجمعها في تنمية الثروة وتوزيعها وحفظ الأمن والاستقرار وحماية حدود موارد البلاد وأراضيها.

وإن تلك الأهداف لا يمكن تحقيقها إلا من خلال دولة الرعاية العامة التي تعمل على تنمية الثروة القومية من خلال التشغيل الكامل وشبه الكامل للمجتمع.

وذلك عن طريق التعليم والتأهيل وتوفير الرعاية التي تجعل الجميع متساويين في فرص التشغيل، في حين تعتبر المدرسة الليبرالية الجديدة تلك المهام شأناً شخصياً وتعمل على زيادة العروض وتنمية الثروة عن طريق زيادة الاستثمارات والاعتماد على العمالة المؤهلة.

حتى وإن استجلبتها من الخارج وتترك لآلية السوق مهمة توزيع الثروة بين الأفراد والأقاليم والتي ستكون في هذه الحالة من نصيب الأفراد المؤهلين حتى وإن كانوا أجانب. كما ستكون من نصيب الأقاليم الجاذبة للاستثمارات وفي المجالات السهلة والمدرة للربح ولا يشترط فيها تنمية الثروه القومية.

عجز رأس المال بما أن الاستثمار نفسه هو استخدام للعلم والتقنية، فإن رأس المال أعجز من أن يرتاد هذا المجال بمفرده.

على الأقل هذا ما اعترف به موظفون كبار في البنك الدولي، مما يتطلب تدخل الدولة، كما يتأكد ذلك من خلال التدخل أيضاً من خلال الأزمة الاقتصادية العالمية والتي لم تنقشع إلا بعد ضخ أموال دافع الضرائب، مما يعني عملياً تدخل الدولة حتى تضمن عودة المال العام.

تنظر الليبرالية الجديدة أيضاً إلى مسألة الأمن في جانبها العملياتي وليس في بعدها الشامل المتعلق بالإخلال الوظيفي الذي يقود لانتشار الجريمة وتهتم فقط بالأمن والشرطة، بل حتى تلك المهمة قد تخلت عنها للشركات الخاصة مثل شركة (بلاك وتر) التي أوكلت لها الإدارة الأميركية مهمة إدارة سجن أبوغريب في العراق ومثلها أيضً شركة الهدف عندنا في السودان.

زلزلة السودان ورغم أننا نمتلك 40 مليون رأس من الماشية إلا أننا نستورد الألبان ومشتقاتها من دولة تمتلك 1,500 رأس لأننا فشلنا في الزراعة بشقيها النباتي والحيواني وفشلنا أيضاً في الصناعة وحققنا بالمقابل نجاحاً في الاتصالات والفندقة فانتشر الفقر وانفلت الأمن لانعدام الجانب العملياتي في العملية الأمنية والمتعلّق بالوجود الحاسم للشرطة على مستوى البلاد كلها، كما أشار إلى ذلك د.بلال في ورقة سالفة الذكر.

الإنقاذ اعتمدت على ريع النفط وطورت اقتصاد السوق الحر في الجانب الأكثر افتقاراً، حيث زاوجت بين الحرية الاقتصاديه والقبضة الشمولية فأصبحت الحرية الاقتصادية للقلة.

التشغيل الكامل للمجتمع النتيجة الكارثية لهذا الوضع لا تحتاج لشرح لأننا نعيشها واقعاً وفي حالة التشظي التي تعيشها بلادنا والتي لا يمكن تجاوزها إلا بتأسيس دولة الرعاية العامة التي تنمي الثروة وتعيد توزيعها بين الناس وبين أقاليم السودان عبر التشغيل الكامل للمجتمع عن طريق رفع قدرات الناس بالصرف على التعليم والتدريب والتأهيل والبحث العلمي.

والذين ما زالوا ينادون بإقصاء السوق الحر رغم نتائجه الماثلة يعانون تخلفاً فكرياً يرجع إلى إزدهار الليبرالية الجديدة والتي طبقتها أميركا وبريطانيا أيام رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في السبعينيات من القرن.

دون أن تخضع لمراجعة نقدية على ضوء التطوّرات التي توصلت إليها المنظمات العالمية لمكافحة الآثار السالبة نتيجة تطبيق تلك السياسات التي تدعو لاعتماد دولة الرعاية العامة، كما أجملت في أهداف الألفية الاجتماعية، بل إن الجهات المانحة اعتمدت الحكم الرشيد شرطاً لتقديم الدعم والعون الذي يضمن صرف المساعدات على الأهداف المجتمعية.

وبالتالي، فإن الذين ينادون بإقصاء السوق الحر هم سجناء للماضي الغربي، مثلما هم سجناء للماضي العربي الإسلامي في السياسة ويتباهون بتخلفهم كميزة مقارنة بوقت سجل فيه الفكر الاجتماعي الديمقراطي انتصاراً كاسحاً على أفكار المدرسة الليبرالية الجديدة.

حضور الجماهير لكن كما يقولون رُب ضارة نافعة؛ فالتجربة الحديثة في التخطيط المركزي أنابت عن الجماهير لا لشيء سوى أن من يقومون بهذا يحكمون الناس برضاهم وفي كثير من الأحيان بغير رضاهم.

هذه التجربة ما كان لها أن تصل إلى نهايتها دون أن تترك تساؤلات أعمق من كونها فاشلة مثل: كيف يمكن لأي كائن من كان أن ينوب عن الناس في تحديد احتياجاتهم مهما بلغ من العلم والمعرفة دون مشاركة الناس المعنيين بالأمر.

و كان من الطبيعي أن لا تكتب الاستمرارية لكل الدساتير التي صيغت بمعزل عن الناس، كما فشلت كل مشاريع التنمية التي تم التخطيط لها، فيما صار يعرف في أدبيات التنمية بـ”التربيزة الخضراء”، والمعنى المقصود هو أن التخطيط داخل الكاتب لا يأخذ في الاعتبار الاحتياجات الفعلية للناس الذين أقيمت من أجلهم تلك المشاريع، لذا انهارت وأصبحت قروضها ديوناً على الدولة.

منظمات المجتمع المدني في اعتقادي أن منظمات المجتمع المدني التي انتظمت السودان وعلى علاتها تقوم بدور مهم في تمكين الناس عبر ورش العمل القاعدية من تحديد احتياجاتهم الفعلية بأنفسهم وتبصير الدولة بواجباتها في المجال الاجتماعي بدلاً من اعتماد تصورات الخبراء الذين لم تطأ أقدامهم الأرض التي يتحدثون عنها.

والواقع ان منظمات المجتمع المدنى تقوم حالياً بدور تجاه الناس اشبه بالدور النقابى والمطلبى الأمر الذى يعنى ان هذه المنظات تقوم بسد الفراغ فى غياب اتحادات ونقابات مطلبية.
كهانة حديثة تسيطر كما إن تلك السياسات تتمدد بالمناقشة والتنظيم إلى مناطق غير مطروقة من قبل المهتمين بالقضية الاجتماعية والذين انحسرت جهودهم للقطاع الحديث لوقوعهم تحت سيطرة الكهانة الحديثة فخيل لهم أنهم يمكن أن ينوبوا عن الجماهير في التعرف على مشاكلهم وبتحديد المشروع الاقتصادي السياسي البديل للأوضاع السائدة.

إن الحملة التي تواجهها منظمات المجتمع المدني نابعة من كونها تسحب البساط من تحت أقدامهم فيكثر الزعيق في مواجهتها خصوصاً حول مصادر تمويلها وإن كانت بعض تلك الأصوات لا يجانبها الصواب إلا أن غالبية الاصوات تشفق على وضعيتها في ظل وضع جديد.

شبكة الشروق
قرشى عوض

[/JUSTIFY]
Exit mobile version