فصار لكل قبيلة إرثها وإنتاجها الثقافي من غناء وآداب وفنون أدائية وطقوس اجتماعية ودينية ، تشكلت حسب البيئة. ففي الشمال نجد الآلات الإيقاعية صغيرة والإيقاع هادي ، وفي الشرق الآلات أكبر قليلاً من الشمال وفي الغرب والجنوب تتميز الطبول بكبر حجمها وارتفاعها مع سرعة الإيقاع وصخبه وتعقيده يماثل صخب الطبيعة من أمطار غزيرة وغابات كثيفة ، ثم تتنوع وتختلف الآلات الوترية في أحجامها وتسمياتها ففي الشمال تسمي الربابة الطمبور ، وفي الشرق الباسنكوب ، وفي الغرب الربابة وفي الجنوب أولقو ، كما تختلف استخدامات بعض الآلات في الطقوس والممارسات الاجتماعية ، وبعض القبائل لها لحن يسمي وتر القبيلة يماثل السلام الوطني عند البجأ والهدندوة يمنع منعاً باتاً عزفه عند القبائل الأخرى ، ويمكن أن تدخل مع القبيلة الأخرى في حرب إذا استخدمت وتر القبيلة .
وهذه بعض التفاصيل التي تبين وتوضح دور أجهزة الإعلام في حفظ التراث السوداني من خلال جهازي (التلفزيون القومي ، إذاعة أمدرمان) في توثيق وحفظ التراث الموسيقي السوداني بشقية الحضري والريفي . الحضري يطلق علي الموسيقي التي تعتمد علي أساليب الضبط الصوتي علي النظام الأوربي وذلك عن طريق ضبط الآلات اعتماداً علي آلة أوربية ثابتة الضبط مثل الأكورديون . أما الموسيقي الريفية (الشعبية أو التقليدية) فلا تعتمد علي ذلك النظام ، وإنما كونت لذاتها منظومات موسيقية خاصة .
فهذا عرضاً توثيقياً لبعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي أسهمت في توثيق وحفظ الموروث الثقافي الموسيقي بكل أنماطه وتنوعه .
الإذاعة والتلفزيون كأية وسيلة من وسائل الإعلام الأخرى لها اتجاهات ومسئوليات اجتماعية تنطلق منها لخدمة المجتمع الذي تنتمي إليه بيئياً وسياسياً واجتماعياً ، واقتصادياً ، باعتبار أن هذه الوسيلة هي المرآة العاكسة لواجهة المجتمع حضارياً ، ولنشاط الإنسان الفاعل فيه بكل حيويته وعنفوانه ، وأن هذا الدور يحتملها مسئولية وتبعية أي اختلال أو أي اهتزاز في التوازن الحضاري بشكله العام والخاص .
ولهذين الجهازين تقع المسئولية الكبرى في الحفاظ علي التراث الثقافي الأدبي والفني، الغنائي الموسيقي خوفاً من التحريف والضياع .
1 ـ الإذاعة السودانية :
تم إنشاء الإذاعة السودانية أبان الحرب العالمية الثانية أي في عام 1940م لنقل أخبار الحرب وانتصارات الحلفاء ، وسميت إذاعة أمدرمان ، إضافة إلي الأخبار كانت تقدم وصلات غنائية علي الهواء لانعدام تقنيات التسجيل وكان مقرها شرق شارع الموردة بالقرب من منزل سلاطين باشا وقبة الأمام المهدي ثم انتقلت إلي بوستة أمدرمان ثم في خمسينيات القرن الماضي استخدم نظام التسجيل علي أسطوانات الألمونيوم لحفظ المواد الغنائية والثقافية ، ثم في نهاية الخمسينيات عندما انتقلت الإذاعة إلي مقرها الحالي استبدلت تلك الأجهزة بتقنيات حديثة استخدمت فيها الأشرطة الممغنطة لحفظ المواد ، وأخيراً أدخلت أجهزة الحاسوب في البث الإذاعي .
2 ـ التلفزيون القومي :
أما التلفزيون فقد بدأ البث التجريبي عام 1962م ، وكان الإرسال علي الهواء وفي أواخر الستينات بدأ حفظ المواد في أشرطة التسجيل .
أما التلفزيون فقد ساهم في توثيق كل مناحي الحياة السودانية السياسية والاقتصادية الثقافية بكل ضروبها من مادية وفنون غنائية وتشكيلية تمكن الدارسين والباحثين من الرجوع إليها في أي وقت يحتاجونها فيه وفي أوائل السبعينات القرن الماضي بدئ في إنشاء محطات تلفزة إقليمية بدأت بود مدني وانتشرت ووصلت إلي كل عواصم الولايات والمحافظات .
وقد ساهم هذان الجهازان في توثيق وحفظ المواد الموسيقية والغنائية لمختلف أنحاء السودان كما أعدت برامج مقدرة تناولت الثقافة الموسيقية السودانية بإثنياتها المختلفة سواء في الاستوديوهات أو في بيئاتها المحلية .
البرامج الإذاعية:
1/ برنامج حقيبة الفن:
كان يقدم هذا البرنامج المبارك إبراهيم منذ الخمسينيات ثم خلفه عوض بابكر ، وهو عبارة عن برنامج تقدم فيه أغاني أصطلح علي تسميتها حقيبة الفن ، وهي الأغاني التي سبقت دخول الآلة الموسيقية الميلودية واستمر هذا النمط من الغناء إلي يومنا هذا وبنفس التسمية ـ علماً بأن حقيبة الفن تعتمد علي الشعر القوي السوداني بأنواعه المختلفة ، حيث يغني مطرب واحد أو ثاني يتبعه الشيالون (كورس) خلفهم بحيث تستخدم آلة الرق والطبل وهذه الأغاني محورها الحب والفروسية والمناحة .
2/ برنامج في ربوع السودان:
بدأ بث هذا البرنامج في عام 1954 ، من إعداد وتقديم محجوب على محجوب ومن خلاله تبث أغاني أقاليم وأرياف السودان أي الأغاني الشعبية والتراثية ، مع نبذه عن الأغنية ومؤديها .
وقد ساهم هذا البرنامج في انتقال عدد من المواهب من الأقاليم إلي العاصمة الخرطوم ، نذكر منهم محمد وردي ، زكي عبد الكريم من شمال السودان عبد القادر سالم وصديق عباس من غرب السودان ، عبد الله دينق ويوسف فتاكي من جنوب السودان ، عبد العظيم حركة من الشرق وغيرهم كثير وقد ساهموا في إثراء الساحة الفنية علي نطاق السودان .
3/ أدب المدائح:
برنامج خاص بتقديم المدائح النبوية من إعداد وتقديم قرشي محمد حسن ، والمديح كلمة مشتقة من مدح ، وهو نمط غنائي ديني له ألحانه الخاصة وأحياناً تركب الكلمات علي لحن من الألحان السودانية الشائعة .
وللمديح أيضاً هذا إيقاعاته الخاصة المعروفة في السودان وقد ساهم هذا البرنامج في ربط المستمعين في كافة أرجاء السودان بالتراث الصوفي السوداني المتنوع .
4/ رواد أغنية أمدرمان:
إعداد وتقديم ذو النون بشري ، عبد الله إبراهيم أميقو ومحمد آدم ترنين
هذا البرنامج يعني بتقديم أغنيات فنان معين وتحليلها من حيث البناء اللحني والإيقاعي والآلات المنفذة للعمل وقد ساهم في تثقيف ونشر الوعي الموسيقي لدي المستمعين وهو برنامج تحليلي توثيقي يستعرض فن وسط السودان .
برامج التلفزيون:
1/ ساعة صفاء: إعداد وتقديم محمد حجاز مدثر
وهو عبارة عن برنامج يوثق المدائح النبوية في داخل الاستديو وخارجه في الخلاوي وقبة الشيخ حمد النيل حيث كل يوم جمعه بعد الصلاة يتوافد الناس لمشاهدة والاستماع إلي المدائح من مختلف الطرق الصوفية في أمدرمان العاصمة القومية .
وكان له أثر عميق علي المشاهد بربطه بحركة التراث الصوفي المتنوع .
2/ صور شعبية: إعداد وتقديم الطيب محمد الطيب
هو برنامج يوثق للحياة السودانية في مختلف النواحي الثقافية ، اجتماعية ، فنون غنائية ، أدائيه ، وثقافة مادية ، وقد بدأ هذا البرنامج منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي وقد ساهم في تعريف مختلف قطاعات الشعب السوداني بالثقافة السودانية المتعددة .
بيّن هذا البرنامج الصور التقليدية والأثينه للتراث مما جعله برنامجاً أشبه بالأرشيف وقد حقق صورة هذا التنوع الموجود في السودان .
3/ أسماء في حياتنا: إعداد وتقديم عمر الجزلي
يُعني بالتوثيق للشخصيات السودانية التي ساهمت في تشكيل الوجدان السوداني من مطربين وموسقين وشعراء إضافة إلي نجوم من السياسيين والأطباء والمهندسين والتربويين والاقتصاديين . بدأ البرنامج في عام 1982 وما زال مستمراً إلي الآن . وهو برنامج أشبه بالترجمة للشخصيات .
4/ فنان تحت المجهر: إعداد وتقديم د. الفاتح الطاهر
يُستضاف فيه مطرب معين ، ومن ثم تُعرض أعماله للتحليل العلمي من حيث تراكيب الجمل اللحنية ، والإيقاع . ويعتبر برنامج أرشيف موسيقي وبه دراسة تحليلية نقدية .
5/ تراثيات: إعداد وتقديم جراهام عبد القادر
وهو برنامج يُعني بالأغاني والرقصات الشعبية للقبائل السودانية المختلفة بإثنياتها وفي كل حلقة تُستضاف فرقة لقبيلة معينة ، وبعد كل عرض يتناول مقدم البرنامج والضيف مناقشة وتحليل العرض في سياقه الاجتماعي الذي أفرزه ومن ثم تناول عناصر العرض من التركيبة اللحنية والإيقاعية والرقص .
وقد أسهمت هذه البرامج مجتمعة وفي الفترات المختلفة التي قدمت منها في رفع القيمة المعرفية بالعديد من أوجه التراث السوداني وربط الأجيال العديدة به ربطاً مباشراً ، وهي لا شك تمثل حلقة مهمة في سلسلة من الأدوات التي يجب أعمالها في سبيل الحفاظ علي الهوية الموسيقية والموروث الشعبي في ظل عصر العولمة التي يتطلب التعاطي معها وعياً كبيراً بالدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في الحفاظ علي الموروث ونقله عبر الأجيال وترسيخ مشاعر الاعتزاز بالهوية والخصوصية الثقافية لدي هذه الأجيال وبخاصة جيل عصر العولمة .
هذه وقفات حول دور وسائل الإعلام السودانية (الإذاعة والتلفزيون ) في الحفاظ على الموروث الثقافي والأدبي والفني … فهي خطوة في الطريق الصحيح نحو توثيق لمسارات الفن السوداني .
لأن المكتبة السودانية فيها كثير من القصور الثقافي الذي يحتاج منا إلى وفقات جادة نحو توثيق كل شيء عن الفن السوداني .. وحتى تساهم في إيجاد معلومات وافية لمن يبحوث في التراث السوداني المكتوب والمقروءة .. خصوصاً بأن كثير ممن يتقدمون لنيل درجات (رسائل الماجستير والدراسات العليا ) هم في أمس الحاجة لمثل هذا التوثيق المكتوب.
سليمان عبد الله حمد ـ الرياض
[email]ab_fatima2011@hotmail.com[/email]