العلاقات المصرية السودانية من منظور جدي

[JUSTIFY]منذ استقلال السودان في أول يناير عام 1956م وحتى يومنا هذا، ظلت العلاقات المصرية السودانية أمراً شائكاً، ولم تجتهد أيما الحكومتين في تقديم منظور استراتيجي متكامل لهذه العلاقات.

بالنظر إلى أن آباء الاستقلال المؤسسين في السودان، لم يكونوا أصحاب تصور كلي لهذه العلاقات بسبب تكريسهم للتعامل بالأفعال وردود الفعل.

الأمر الذي جعلهم يناورون على ما لا يمكن المناورة به، ويجعلون شأناً بمستوى وحدة وادي النيل أمراً تكتيكياً يمكن التعامل معه على هذا النحو على ضرورته الاستراتيجية لشعبي وادي النيل.

أخطاء ناصر القاتلة وبغض النظر عن الأخطاء القاتلة التي وقع فيها الرئيس جمال عبدالناصر في مصر حين جعل العلاقات المصرية السودانية شأناً أمنياً تتولاه المخابرات المصرية. ثم دخل في سلسلة طويلة من الإجراءات والممارسات والأفكار والسياسات التي تصب في هذا الاتجاه الخاطئ.

إلا أن هذه الأخطاء لا تبرر أخطاء آباء الاستقلال المؤسسين حينما لم يفرقوا بين الثابت والمتغير أو التكتيكي والاستراتيجي في العلاقات بين البلدين، الأمر الذي جعل فكرة (العلاقات الأزلية) بين شعبي وادي النيل شعاراً مرفوعاً ولا يسنده الواقع.

ورغم كل الأخطاء المنسوبة إلى العهد الملكي السابق لثورة 23 يوليو 1952م، إلا أن سعي النظام الملكي السابق إلى شكل من أشكال الوحدة بين مصر والسودان كان يصب في خانة المنظور الصحيح لما ينبغى أن تكون عليه العلاقات بين السودان ومصر.

ألاعيب استخباراتية وقد ظل الرئيس جمال عبدالناصر رافعاً لشعار الوحدة بين مصر والسودان لفترة بعد الثورة حتى توقيع اتفاقية حق الجلاء للسودان في 12فبراير 1953م.

وقد نصَّ هذا الاتفاق على منح الشعب السوداني الحق في تقرير المصير بالوحدة مع مصر أو الاستقلال.

ورغم أن هذا المبدأ لم يكن عليه غبار من حيث أنه يمكن أن يحقق وحدة طوعية بين شقي الوادي إلا أن الألاعيب الاستخبارية البريطانية قد نجحت في الإطاحة بفكرة وحدة وادي النيل.

مستغلة الأخطاء التي وقع فيها الرئيس جمال عبدالناصر ومضخمة لها مع استنادها إلى أحزاب وجماعات وتكوينات سياسية ليست بعيدة عن فلك هذه المخابرات.

وما يؤخذ على الرئيس جمال عبدالناصر أنه لم يبذل الجهد الذي يضمن أن يكون خيار الوحدة هو الخيار الراجح، حال إجراء الاستفتاء بشأن الوحدة بين مصر والسودان أو الاستقلال.

إسفين في نعش الوحدة ثم جاء إعلان الرئيس إسماعيل الأزهري للاستقلال من داخل البرلمان متجاوزاً للاستفتاء ليكون بمثابة الإسفين الأخير في نعش الوحدة بين مصر والسودان لأسباب وتقديرات يراها الرئيس إسماعيل الأزهري، ولكنها تصب في خانة التخليط وعدم التمييز بين الثابت والمتغير في العلاقات بين الدولتين الشقيقتين.

في فترة ما بعد استقلال السودان وفي ظل الشراك التي نصبتها المخابرات البريطانية للدولة الوليدة ولا سيما اللعب على دعم حركة تمرد جنوبية مسلحة لزعزعة استقرار البلاد تمهيداً لفصل الجنوب ثم العمل على تفكيك بقية أنحاء البلاد.

فقد كانت من نتائج هذه اللعبة الاستخبارية البريطانية الاضطراب الذي كان سمة عامة للسياسة والحكم في السودان منذ الاستقلال وخلال عهود متطاولة رغم المحاولات الجادة لمعالجة هذا الخلل في عهود مختلفة ولا سيما في فترة الإنقاذ الحالية، إلا أن أصول السياسة المصرية تجاه السودان كانت خاطئة.

مسارات العلاقة الخاطئة ظلت السمة العامة للعلاقات بين البلدين تتسم بالمسارات الخاطئة في عهود الحكم الجمهوري كافة في مصر (عهد الرئيس جمال عبدالناصر ثم الرئيس أنور السادات وصولاً إلى عهد الرئيس السابق حسني مبارك).

وخلال كافة تلك العهود كانت الرؤية السودانية للعلاقات مع مصر هلامية بسبب وجود توقعات ذات سقوف عالية للدور الذي ينبغى أن تقوم به مصر والسودان دون ردود منظور سوداني محدد للاستراتيجية التي تضع سلم أولويات لما يريده السودان من مصر خدمة لقضية الأمن القومي لدولتي وادي النيل.

كانت السياسة المصرية مكبّلة بالأخطاء التاريخية التي حدثت في بدايات عهد ثورة 23 يوليو، مما جعلها أسيرة التعامل الأمني في علاقاتها مع السودان في مختلف العهود المصرية التالية.

سفراء ضباط مخابرات تمَّ تكريس هذه الأخطاء بتعيين سفراء مصريين في السودان كانوا يحملون رتباً عسكرية عالية في المخابرات المصرية ومن أشهر هؤلاء السفير سعد الفطاطري الذى كان سفيراً لمصر في السودان ما بين عامي 1975-1980م.

ولكنه لم يكن الوحيد وإن كان الأشهر، فالأصل في السياسة المصرية هي تعيين ضباط المخابرات سفراء لمصر في السودان.

ومع كل ذلك فإن السياسة المصرية لم تكن مبنية على ما ينبغي القيام به لحماية الأمن القومي لدولتي وادي النيل مع شدة الداخل في علاقاتهما ومصالحهما وأمنهما على النحو الذي يجعل أي مهدد أمني لإحدى دولتي وادي النيل مهدداً أمنياً للدولة الأخرى.

وهذا تأكد عملي حينما اتفقت مصر مع حكومة السودان على نقل ما بقي من سلاح الطيران المصري الذي تعرض لضربة صهيونية مدمرة في حرب الأيام الستة (5 يونيو 1967م) إلى قاعدة وادي سيدنا العسكرية في السودان.

سياسة بتر الأطراف في ظل غياب مثل هذه الرؤية الاستراتيجية وعدم وجود منظور متكامل بشأن الأمن القومي لدولتي وادي النيل، نجح الكيان الصهيوني في دعم حركة التمرد الجنوبية على النحو الذي جعلها مهدداً يحسب حسابه لأمن واستقرار السودان.

مما يهدد الأمن القومي للسودان ومصر معاً بالكثير من التفاصيل التي أوردها ضابط المخابرات الصهيوني موشي فرجي في كتابه حول العلاقات الصهيونية مع حركة التمرد الجنوبية في إطار الاستراتيجية الصهيونية لتمزيق العالم العربي عن طريق دعم حركات التمرد في عدد من الدول العربية.

ولا سيما الأكراد في العراق وحركة التمرد في جنوب السودان في تطبيق الاستراتيجية التي وضعها رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأول ومؤسسه ديفد بنجولريون (1886-1975م)، التي يمكن تلخيصها في شد وبتر الأطراف العربية النائية ومناطق الصراعات والتمردات.

ضرورة تصور جديد هذه الرؤية أطلق عليها صراع المركز والهامش، وهي ذات الرؤية التي تتبناها اليوم حركات التمرد الدارفورية والجبهة الثورية وغيرها من قوى المعارضة دون اكتراث بأصول وخلفيات هذا المصطلح وغاياته النهائية.

بعدما يقرب من العقود الستة على بداية تنفيذ المخطط الصهيوني في العالم العربي، نجح في فصل جنوب السودان ويسعى اليوم إلى تفكيك بقية أجزائه إلى جانب تفكيك عدد من الدول العربية.

فما هي الاستراتيجية العربية في مواجهة هذا المخطط وما هو المنظور الأمن القومي لدولتي وادي النيل في تقدير المعنيين بالأمن في دولتي وادي النيل ولا سيما بعد فوز الرئيس محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية؟

وما هي الأسس التي يتعين على دولتي وادي النيل الاستناد إليها في بناء تصور جديد للعلاقات بين الدولتين الشقيقتين؟ ذلك ما نرجو أن يكون هذا التقرير متلمساً لأهم ملامحه.

[/JUSTIFY]

الشروق
جاد كريم عبد القادر

Exit mobile version