نفط الجنوب إلى إسرائيل .. هل ستخسر الخرطوم؟!

فيما لا يزال فشل مفاوضات اللجنة السياسية الأمنية المشتركة بأديس، يخيم على الأجواء في الخرطوم التى اتهمت جوبا بالتذبذب والتراجع طبقاً لوزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين، الا واختارت جوبا أن تنكأ الأوجاع مرة أخرى، طاعنةً اتفاق التعاون المشترك مع الخرطوم فى مقتل بتوقيع وزير البترول ستيفن ديو داو إتفاقية تقضي ببيع النفط إلى إسرائيل، عقب زيارته الرسمية إلى تل أبيب خلال الأيام الماضية، وبحسب الصحافة الاسرائيلية فإن دولة الجنوب ستبيع للشركات الإسرائيلية النفط، وذلك بعد اكتشاف عدد من الآبار النفطية في دولة جنوب السودان.

الاحتفاء الاسرائيلي بالاتفاق برز إعلامياً، وتغزلت دوائره الإعلامية فى علاقات الكيانين، كاشفة عن تزايد وتيرة العلاقات بعد استقلال الجنوب وأن الاهتمام بدأ يتركز بعد أن أصبحت جوبا تصدر حوالي 4% من إحتياطي النفط العالمي سنوياً.

الكثيرون فى الخرطوم نظروا لخطورة الأمر سياسياً وإعلامياً واستراتيجياً، مقللين فى ذات الوقت من أهمية الأمر برمته على الجوانب الفنية المتفق عليها فى اتفاقية التعاون المشترك، ويذهب محمد طه توكل الناشط الارترى والمتخصص فى شؤون القرن الافريقى فى حديثه لـ(الرأى العام) الى أن الخطورة تكمن فى أن توقيع اسرائيل اتفاقات غض النظر عن طبيعتها مع دول على حدود الخرطوم من شأنه أن يجعل الاخيرة دولة مواجهة، لجهة أن الخرطوم هى الدولة الوحيدة فى منطقة الشرق الافريقى التى ليست لها علاقات مع تل أبيب.
مراقبون اعتبروا أن جوبا تلعب بالنار بتوقيعها اتفاقات مع تل أبيب هى الثالثة من نوعها فى غضون الفترة الأخيرة، وأن الهدف الأساسى من توقيت الاتفاق هو استفزاز الخرطوم لاجبارها على تسريع وتيرة التفاوض من جهة وتقديم تنازلات تتيح للجنوب الخروج بتسوية مغرية ترضي تيار صقوره فى الحكم والحركة، على خلفية المواقف المتصلبة لمفاوضي الخرطوم فى الجولة الأخيرة..

تحليلات أخرى ترى أن الأمر يتجاوز علاقات الجنوب والسودان، وفوق التصورات بمحاولة جوبا استفزاز الخرطوم، الى تفكير ناضج مبنى على المصلحة كمحرك للسياسة الخارجية، ويذهبون الى أن جوبا من حقها التصرف فى مواردها كيفما شاءت، وانه لن يضير الخرطوم شيء اذا استعانت بتل ابيب لقضاء بعض حوائجها المعطلة ، خصوصاً وان رموزها وقياداتها وقبل الانفصال كشفوا عن عزمهم الانفتاح على جميع الدول دون تحفظ بما فى ذلك اسرائيل، وهو ما أكده لى د.لوكا بيونق فى حديث سابق حول اتجاهات السياسة الخارجية الجنوبية عقب الانفصال. واوضح حينها بأنهم غير معنيين بمحددات السياسة الخارجية السودانية وأن أولويات جوبا فى الحد الادنى الانضمال الى منظمتى التعاون الاسلامى وجامعة الدول العربية، وقال(ما يحركنا فى خلق علاقات دبلوماسية مع الآخرين فقط سيكون مصالحنا ولا شيء غيرها)، ويبدو أن جوبا تبنت عملياً طريق مصلحتها فى تدشين سياسة خارجية وعلاقات دبلوماسية مع اسرائيل..

الخرطوم لا ترضى بجرح كبريائها، وتذهب فى تحليلاتها لإبراز الآخرين أكثر ضعفاً، بهذا المنطق ابتدر الخبير الأمنى حسن بيومى حديثه لـ(الرأى العام) معتبراً أن الأزمة ليست فى توقيع جوبا اتفاقاً مع تل أبيب وإنما فى اتجاه جوبا للتعاون مع اسرائيل، وقال: (سياسة الخرطوم تجاه جوبا هى ما دفع الجنوب للارتماء فى أحضان اسرائيل، بالتالى علينا احتضان جوبا ومحاولة التوصل لتفاهمات وحلول قبل فوات الأوان وإمساك اسرئيل بمفاصلها أو الاتجاه لدول أفريقية اخرى تبحث عن موارد وثروات الجنوب).

الخبير الأمنى الاكثر التصاقاً بالملف الاسرائيلى بحكم متابعته لملف الفلاشا ابان الحقبة النميرية، يرى أن أزمة اسرائيل الحقيقية ليست فى الطاقة وانما فى المياه، والاستراتيجية الاسرائيلية بالأصل موضوعة لاحتواء السودان وتذويبه ضمن سياقات أكبر هى تقسيم العالم العربى على أسس طائفية ومذهبية وتوظيف للأقليات الدينية والاثنية، خصوصاً وأن السودان كان مرشحاًُ كدولة لـ(شعب الله المختار) كما يقولون نسبة لأراضيه الشاسعة قياسا على تعداد سكانه وموارده المتعددة والكثيرة، واضاف (اسرائيل سياستها تجاه السودان منذ 1955م هى سياستها الآن غض النظر من يحكم ، وللوصول الى المياه قامت بالاستيلاء على ايلات ثم أثيوبيا، لتخترق الشرق الافريقى وتكون على البحر الاحمر ومنابع النيل فى آن واحد، وبدأت خطتها فى احتواء الدول الأفريقية).

تعدد الاتفاقيات الجنوبية مع الكيان الصهيونى بحسب بيومى، يجئ من الحاجة الجنوبية للعقول وللمساعدات الفنية الاسرائيلية بعد نجاح ذلك عسكرياً، وقال: (السوق الاول للمنتجات العسكرية الاسرائيلية هو أفريقيا، لذا تجدها مبكراً قدمت دعمها لجوزيف لاقو، ومضت فى ذات الاتجاه، وأديس ابابا 1972م ، جاءت كمحطة ليس الا ، لذا لم تستمر وألقوا اللوم على نميرى لكن الحقيقة انها كانت محطة فى الاستراتيجية التى نفذها قرنق بعد ذلك رغم توجهاته الوحدوية).

الحزب الحاكم فى الخرطوم، لم يتجاوز نظرته التقليدية للأمور على ما يبدو ، واعتبر السلوك الجنوبى تجاه اسرائيل مرض عابر غير مستوطن أو استراتيجية يمكن اعتمادها ضمن استراتيجيات جوبا للإطلال على المجتمع الدولى ، ووقفت تحذيراته من التعاون الاسرائيلى الجنوبى عند حدود أن قيام علاقات دبلوماسية بين جوبا وتل أبيب يشكل خطرا على العرب والمنطقة برمتها ، ولم يسع الحزب الحاكم لتجاوز ذلك وهو ما أكده د. ربيع عبد العاطى الناطق باسم القطاع السياسى، بقوله لـ(الرأى العام) أمس(نحن لا نخشى هذه العلاقات على السودان وحده، وإنما نخشاها لتبعاتها على العرب والمسلمين في كل مكان، وفي أفريقيا بوجه خاص، فهذا خطر عظيم يتهدد المنطقة برمتها).

وأضاف ربيع (ما تم تأكيد على أن اسرائيل اخترقت الجنوب تماماً، وأصبحت لها علاقات مباشرة ووجود حقيقى سياسياً واقتصادياً، بدأت منذ ما قبل الانفصال، وترجمت نفسها حالياً بهذه الاتفاقات)، واعتبر عبد العاطى أن علاقة جوبا بتل أبيب لا تعنى الخرطوم فى شئ وان الخرطوم لا تربط بين علاقات الجنوب الخارجية وبين علاقتها به، وقال: (لهم انشاء علاقات مع من يشاؤون وتوقيع اتفاقات مع من يريدون شرط الا تكون موجهة ضد السودان أو تستهدف علاقتنا معهم كجيران -اى الجنوب، بمعنى يجب أن تكون علاقات معزولة بمثل علاقتنا مع امريكا).

قدوم اسرائيل الى تخوم حدود الخرطوم الجنوبية، بدأ يخلق نوعاً من القلق داخل أروقة الحزب الحاكم ، لجهة ما تتمتع به اسرائيل من قدرات، دلل عليها من قبل بيومى بأنها استطاعت اختراق الأجواء السودانية أربع مرات وخامستها كانت امس دون أن تشعر الخرطوم ربما، قلق الخرطوم الرسمية أو فى الحد الأدنى حزبها الحاكم عبر عنه د.ربيع بأن تحول الخرطوم لدولة مواجهة يجعل من الاهمية بمكان مراقبة تطور العلاقات الجنوبية الاسرائيلية ، حتى لا تنحرف هذه العلاقة لتهديد السودان أمنياً..

وقطع عبد العاطى بأن المفاوضات بأديس ابابا واتفاق النفط الموقع بين العاصمتين لا علاقة له باتفاقات جوبا، وأوضح بأن اتفاق التعاون فى ملف النفط نص على النقل والعبور وتحدث عن ذلك لكنه لم يتحدث عن منح النفط ، واعتبر نقل النفط الجنوبى لأى جهة أمراً يشبه نقل البضائع السودانية تأتى سفنها التى ترفع أعلاماً تتيح لنا تسليمه، لكن الخرطوم لا تتحكم فى توزيع النفط أو لأى دولة يذهب.

اقتراب اسرائيل من الحدود وفشل التفاوض وغضب المجتمع الدولى وعدم تماسك الجبهة الداخلية وبروز الجبهة الثورية بقوة بعد ميثاق الفجر الجديد، أفرز سؤالاً قوياً صاخباً فى استحقاقه خجولاً فى تعاطيه عما اذا كان التطبيع مع اسرائيل حلاً لمشكلات النظام الحالى؟، عضو القطاع السياسى د. ربيع عبد العاطى، قطع بأن العداء مستمر أصلاً ومقرر بحكم العقائد، وأنهم اذا وضعوا الشمس على اليمين والقمر على الشمال لا علاقة للخرطوم باسرائيل، واذا حدث ذلك فباطن الارض خير من ظاهرها..

انفعالات الحزب الحاكم لا تبدو عاصمة من المقادير، وطبقاً للوقائع فأن اتفاقية النفط الموقعة امس هى الثالثة من نوعها بين تل أبيب وجوبا، حيث شهد يوليو من العام الماضى توقيع الكيانين لأول اتفاقية علنية منذ بدء التمثيل الدبلوماسى، شكلت بالاساس اتفاقية للتعاون حول البنية التحتية للمياه وتطوير التكنولوجيا والزراعة، وبموجبها تقوم إسرائيل بتزويد جنوب السودان بتكنولوجيا تطوير نظام الري في الزراعة وإدخال نظام تنقية وتطهير مياه المجاري.. الاعلام الاسرائيلى بدا جريئاً وقتها وهو يكشف الكواليس السرية للاتفاقية الزراعية التى تزامنت وتوقيع الطرفين على اتفاقيات عسكرية يتم بموجبها تصدير هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية لجنوب السودان أسلحة ومعدات عسكرية بجانب مساعدتها في تنقية المياه ونقلها للدولة العبرية..

عموماً المشهد يظل مفتوحاً على كل الاحتمالات ، وجوبا لا يبدو أنها ستستقر قبل ان تجد لنفطها مخرجاً فى سياق ازمتها المستعصية إزاء ضغط الخرطوم، ليكون الخوف الاكبر من توظيف التقدم الاسرائيلي لبناء محور ناقل يمتد من أديس ابابا الى جيبوتى، لتموت أخر الآمال في عودة النفط والدفء للإندياح من الجنوب إلى الشمال.

عمرو شعبان
smc

Exit mobile version