(1) “البلاد تسرع الخطى نحو الهاوية، تدفعها سياسات الفساد، والاستبداد، والظلم الاجتماعي والجهوي، والتردي الاقتصادي، وإصرار النظام على فرض أحادية سياسية وثقافية في مجتمع تعددي”
مبعث حيرتنا، في الحالين، أن الميثاق الذي وددنا، بالمناسبة، لو أن كاتبه بذل عناية أكثر في تدقيقه، ليست فيه فكرة واحدة مباغتة للنظام، أو منفلتة عن خط المعارضة المعلن. ويمكننا التماس ذلك عبر محورين تأسيسيين، بصرف النظر عما بالوثيقة من تطويل مُمِل، وتفصيل مُخِل، وذلك كالآتي:
أولاً: أفصح النص عن أن غرضه هو توحيد أوسع جبهة للمعارضة، شاملة “الجبهة الثورية”، لإسقاط النظام، فهل ثمة تثريب عليه في ذلك؟! هل يستطيع النظام أن يزعم أنه بوغت بذلك؟! للإجابة نلاحظ ما يلي:
1- مشروعية استهداف المعارضة إسقاط النظام لا يجحدها حتى النظام نفسه، لاتصالها بمنطق الصراع السياسي ذاته، فالمعلوم من أبجديات علم السياسة، بالضرورة، أن المعارضة طلب جاد للسلطة، وإلا استحالت عبثاً! بل إن بعض متشددي السلطة يعترفون بأن “وجود المُعارضة في النظام يمثل كابحاً للطغيان، ويوفر البديل للحكومة” (أمين حسن عمر، تلفزيون السودان، 10 يناير 2013-ضمن: الواثق كمير؛ “الكرة في ملعب الرئيس”، ورقة غير منشورة).
2- طلب الإجماع الوطني للسلطة ليس سراً، وليس من مصلحة النظام أن يكون سراً! وأحدث تعبيراته المعلنة ديباجة “البديل الديمقراطي -البرنامج- يونيو 2012″، ومقدمة “إعلان أم درمان السياسي – 16 ديسمبر 2012″، قُبيل توقيع ميثاق كمبالا مباشرة.
فكلتا الوثيقتين قرعت جرس إنذار بأن البلاد “تسرع الخطى نحو الهاوية، تدفعها سياسات الفساد، والاستبداد، والظلم الاجتماعي والجهوي، والتردي الاقتصادي، وإصرار النظام على فرض أحادية سياسية وثقافية في مجتمع تعددي، الشيء الذي أدى إلى إهدار كرامة الوطن والمواطن”؛ وأن تلك السياسات “أدت إلى انفصال الجنوب، وإشعال الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي، ودفعت نحو حرب باردة مع دولة الجنوب”، مما “يضع الجميع أمام مسؤولية وطنية كبرى.. لإحداث اختراق حقيقي في المشهد السياسي، لتحقيق تطلعات جماهير شعبنا المسحوقة بالفقر والمعاناة من أجل بديل ديمقراطي.. بكل الوسائل السياسية والجماهيرية السلمية”.
3- النضال السياسي الجماهيري السلمي هو، إذن، وسيلة الإجماع لتحقيق غاياته. ومن يتمعن في “البرنامج” و”الإعلان” يستطيع أن يجزم بأنهما مهَّدا لميثاق “الفجر” الذي، وإن صدر بعد “الإعلان” بأقل من ثلاثة أسابيع، إلا أنه أعقب “البرنامج” بزهاء الستة أشهر، وهي فترة كافية ليتعرف النظام على إستراتيجيات الإجماع، فيتخذ موقفه منها، في وقتها، لا أن ينتفض، فجأة، بعد ستة أشهر، كما لو بوغت بوثيقة “الفجر” التي لا تبعد، قيد أنملة، عن “البرنامج” الباكر، دع “الإعلان” المتأخر!
4- ولئن كان “البرنامج” و”الإعلان” يعبَّران عن التطلع لمشروع وطني مجمع عليه، كأنْ “تدار البلاد، خلال الفترة الانتقالية.. بحكومة انتقالية تشارك فيها (القوى السياسية الموقعة على برنامج البديل) و(فصائل الجبهة الثورية)، مع مراعاة تمثيل النساء، والمجتمع المدني، والحركات الشبابية، والشخصيات الديمقراطية المستقلة”؛ فإن ذلك هو عين ما اشتملت عليه وثيقة “الفجر”؛ فلا جديد، إذن، يبرر اتخاذ النظام موقفاً منها لم يتخذه من رصيفتيها السابقتين!
5- وعلى حين يستمسك الإجماع بوسائل النضال الجماهيري السلمي، وأشكالها المعروفة، فإنه لا يحتفظ لنفسه بفيتو على أية وسيلة نضالية لأي طرف آخر، بل وما ينبغي له. إبراز اختلاف الوسائل ضرورة تنشأ، بداهة، من حق الأطراف المتمايزة، لدى اتفاقها بالحد الأدنى، في التنويه بعناصر تمايزها، تماماً كحقها في إبراز عناصر تطابقها. وهذا ما أكدت عليه (الفقرة/ثالثاً/الوسائل) في وثيقة كمبالا، بنصها، حرفياً، على “احتفاظ كل قوة بوسائلها”، بل وبترجيحها، صراحة، وسائل الإجماع “السلمية”، عبر تأكيدها أن الجبهة الثورية “تدعم استمرار وتصاعد العمل (السلمي الجماهيري)، وتحوله لانتفاضة (شعبية سلمية) كأداة (رئيسة) لإسقاط النظام، وتدعو جماهيرها للمشاركة فيها”؛ وكفى بذلك فلاحاً لخطة اجتذاب المقاتلين إلى ساحة الصراع “السلمي”!
ثانياً: نص “الفجر” حدد، أيضاً، طول الفترة الانتقالية بأربع سنوات، وأهم مهامها في عقد المؤتمر الدستوري، وإقامة انتخابات حرة ونزيهة؛ كما حدد شكل النظام الفيدرالي في أربعة مستويات؛ وأشار إلى الفصل “بين مؤسسات الدين ومؤسسات الدولة”، وهو تعبير بائن الركاكة، المقصود منه، على الأرجح، وإلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري، حظر تأسيس الأحزاب السياسية على أسس دينية، قياساً على ميثاق أسمرا للقضايا المصيرية (يونيو 1995)؛ وما إلى ذلك مما يمكن اعتباره، إجمالاً، حزمة من توافقات “فوق دستورية” ليس نادراً ما جرى تداولها في منابر الليالي السياسية، والندوات الجماهيرية، والمذكرات الحزبية، والمقالات الصحفية، والوقفات الاحتجاجية، والمسيرات السلمية، والاجتماعات الداخلية، والمواقع الأسافيرية، والرسائل الإلكترونية والهاتفية، وما إلى ذلك، حتى لتكاد خطط الإجماع الوطني تكون كتاباً مفتوحاً.
(2) “ما الذي فاجأ النظام، فأهاج قيامته على المعارضة من ناحية، وأفزع المعارضة من ناحية أخرى، ودفعها للتنصُّل عن تبعات “الفجر”، إلى حد رمي وفدها بتجاوز تفويضه؟!”
وإذن، ما الذي فاجأ النظام، فأهاج قيامته على المعارضة، من ناحية، وأفزع المعارضة، من ناحية أخرى، ودفعها للتنصُّل عن تبعات “الفجر”، إلى حد رمي وفدها بتجاوز تفويضه، وفيه سياسيون متمرسون لا يُتوقع أن يخطئوا في ما لا يُتوقع أن يخطئ فيه سياسي مبتدئ؟! ما الذي استكثر النظام على المعارضة، في الميثاق، وأخاف المعارضة من النظام؟! أهو حديثها عن “إسقاطه”، وهو قديم لطالما رددته حتى أضحى من حقائق الصراع السياسي في بلادنا؟! أم هو لقاؤها، في كمبالا، بحملة السلاح، بينما النظام ما ينفك يتبضع بلقاءاته معهم، ما بين نيروبي، ومشاكوس، ونيفاشا، وأديس أبابا، وإنجمينا، وأبوجا، وطرابلس، وبنغازي، والقاهرة، والدوحة، وجزر واق الواق نفسها؟! أهو توصلها إلى ترتيب “شكل تنظيمي” بهذا الوسع، وهي التي لطالما سعت لذلك، تحت بصره وسمعه، فما احتاجت للتخفي، أو العمل السري؟! أم هو نجاحها في صياغة “مضمون برامجي” يمكن تطويره، لتلتقي عليه شتى مفردات المعارضة لفترة ما بعد التغيير؟!
(3)
ليس في ما ذكرنا ما يبرر الاعتقاد بأن الميثاق جاء خلواً من المعايب. فلقد عرض، في بعض جوانبه، لمسائل خلافية تحتاج إلى المزيد من التشاور، فضلاً عما لم يكن مناسباً ورودها فيه من تطويلات وتفصيلات، حيث المنتظر، حسب الميثاق نفسه، طرحها في المؤتمر الدستوري، كإدارة الدولة، والوحدة الطوعية، وعلاقة الدين بالدولة، والمشاركة في السلطة.. إلخ.
مع ذلك ليست هذه، بأية حال، المرة الأولى التي تطلق فيها مثل هذه التعبيرات البرامجية من جانب المعارضة، داخل البلاد أو خارجها، بما في ذلك حديث “الدين والدولة” الذي تركزت عليه هجمة النظام، والذي شكل بؤرة صراع، في بعض الأحايين، حتى داخل هذا النظام نفسه (انظر كتابنا “عتود الدولة”، دار مدارك 2010، ص 107-134)، أو الاتصال والحوار مع المعارضة المسلحة، من باب اجتذابها إلى مناهج العمل السلمي، وعدم تركها نهباً للانعزالية السياسية، أو الإيغال، لأزمنة متطاولة، في حرب أهلية ضروس لا تنمِّي سوى النزعات الانفصالية.
نعم، ليست هذه هي المرة الأولى التي تقع فيها مثل هذه التعبيرات البرامجية، في إطار النشاط السياسي العادي واليومي؛ غير أنها، بالقطع، المرة الأولى التي يضطر فيها النظام لمجابهة مثل هذه التعبيرات، واتخاذ موقف بشأنها!
(4)”السبب، في غضبة النظام لا يعود فقط، إلى أنه فوجئ بتكاثر المواقف المعارضة له من داخل صفه ذاته، بل فوجئ، بأن ثمة حراكاً عسكرياً يستهدفه من خندقه نفسه، للانقلاب المسلح عليه!”
السبب، برأينا، يعود إلى كون النظام قد فوجئ، خلال الفترة الماضية، ليس، فقط، بتكاثر المواقف المعارضة له من داخل صفه ذاته، وبمذكرات التململ الألفية من شبابه الإصلاحيين تطالبه، من بطن بيته، بمجابهة الفساد، وتغيير القيادات، بل فوجئ، أكثر من ذلك، وتحديداً في عقابيل مؤتمر حركته الإسلامية السادس، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بأن ثمة حراكاً عسكرياً يستهدفه من خندقه نفسه، وأن ثمة من يدبِّر، من داخل حصونه، للانقلاب المسلح عليه!
هذا ما يصلح، يقيناً، أكثر من غيره، في تفسير غضبة السلطة المضريَّة على من وقعوا وثيقة “الفجر”، لا لأن توقيعها يمثل يوم قيامة سياسي تنجرد فيه حسابات ما (!) بل لأن الحدث نفسه تزامن مع تفكك غير مسبوق في صفوف النظام، فقذف الرعب في قلبه، ولم يعد يحفل ولو باتساق ثائرته مع أبسط مقتضيات المنطق! لقد هدد رئيس الجمهورية، مثلاً، وهو يومئ لقوى الإجماع الوطني، بأن “الدولة لن تسمح بتداول السلطة لمن يمارس عملاً سياسياً وهو يدعو للعنف واستخدام السلاح” (سونا؛ 10 يناير 2013)؛ ومضى نائبه إلى الإعلان عن حظر الأحزاب الموقعة مع الحركات المسلحة، وعدم السماح لها بممارسة نشاطها، حتى وسط الطلاب (القرار؛ 15 يناير 2013)؛ علماً بأن سياسة الإجماع الثابتة تجاه أهل الجبهة الثورية لا تقوم على دعوتهم “للعنف واستخدام السلاح”، فهم غير محتاجين، أصلاً، لمن يدعوهم لهذا الأمر، بل، بعكس ذلك تماماً، على السعي لإقناعهم بأن ثمة جدوى، في نهاية النفق، من النضال السياسي السلمي.
أما مساعد رئيس الجمهورية د. نافع علي نافع، فقد ردَّ، كعادته، على الميثاق، بخطاب تحريضي أمام مليشيا الدفاع الشعبي، معلناً العام الحالي عاماً لحسم “المتمردين” بدعم “المجاهدين” وفضح العملاء (سونا؛ 8 يناير 2013)؛ وفي وقت لاحق أضاف، وفق نهج إطلاقاته المعروفة، اتهامه للميثاق بأنه أبرم “برعاية وتمويل مباشرين” من السفارة الأميركيَّة والاتِّحاد الأوروبي، كما حمَّل الحزب الشِّيوعي مسؤوليَّة “إخراجه”، واتَّهم حزب الأمة “بالتذبذب”، ووصف المعارضة كلها بأنها “مخلب قط للمتآمرين!” (القرار؛ 15 يناير 2013)، أما والي الخرطوم فقد حرض أئمة المساجد على وثيقة “الفجر” باعتبارها تهدف إلى “طمس الهوية، وفرض الفجور، والمجاهرة بالمعصية!”، أو كما قال (شبكة الشروق+وكالات؛ 12 يناير 2013).
خلاصة الأمر أننا لا نجد لهذا التوتر البائن في موقف السُّلطة من ميثاق “الفجر” تفسيراً معقولاً أو مقبولاً، كما قلنا، سوى أن انقساماتها الداخليَّة، في أخطر مفاصلها القياديَّة، قد أرعبتها، وعصفت بتماسكها، فألجأتها، في بعض مسعاها لدفع هذه المخاطر عنها، إلى القفز من فوق حائط المعارضة القصير، كما في بعض أمثال مستعربي بلادنا، لتخويفها، وحملها على اتخاذ موقف متهافت تثبت به عدم انتهاجها إستراتيجيَّة العنف المسلح، بأن تدين، بل وتعادي، أصحاب هذه الإستراتيجيَّة في الجبهة الثوريَّة، أي أن تخوض حرباً، بالوكالة عن السُّلطة، ضدَّ الجبهة الثوريَّة.. وهذا، بطبيعة الحال، ما لا يكون، وما لا يمكن فهمه، أو هضمه، ضمن أيَّة نظريَّة في العلوم السِّياسيَّة، أو أيِّ منطق للصِّراع السِّياسي العملي!
الجزيرة نت [/JUSTIFY]