ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح…
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
«أمل دنقل» (1)
لم أدرِ لماذا خطر على بالي جزء من قصيدة الشاعر المصري النوبي أمل دنقل الشهيرة «لا تصالح»، والتي تؤمن على أن تستمر حالة «اللا مصالحة» كمتلازمة للعمل السياسي بالبلاد بين الحكومة أيًا كان نوعها وبين معارضتها أيضًا أيًا كان نوعها، والمتأمل لحال الحكومة والمعارضة من حالة عدم التوافق الأبدي الذي تعيشانه، خصوصًا هذه الأيام عقب توقيع أحزاب المعارضة على وثيقة الفجر الجديد بكمبالا، وما ساقه التوقيع من أحداث ومن نصب لمدفعية الهجوم من جانب الحكومة وما تلاه من تبرؤ المعارضة من الميثاق ثم مقابلة الهجوم بهجوم ثم اعتقال بعض المعارضين الموقعين على ميثاق كمبالا يرجع بالزمن قليلاً إلى فبراير (1989) وتحديدًا لمطار الخرطوم عند دخول زمرة من المعارضين لصالة الوصول قادمين من إثيوبيا عقب تلبيتهم لدعوة لحضور ورشة شهيرة أقامتها حينها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة زعيمها حينها د. جون قرنق وبتخطيط من د. الواثق كمير وما عرف عنها لاحقًا «مؤتمر أمبو» وكان حينها السودان يعيش في كنف ما يسمى بالتعددية الثالثة عقب انتفاضة أبريل (1985)، وللمفارقة كان وزير الداخلية حينها مبارك الفاضل كبير المعارضين الآن وحينها أمر وزير الداخلية باعتقال كل من حضر المؤتمر وبفتح بلاغات جنائية ضدهم بتهمة الخيانة العظمى وحينها كانت إثيوبيا إبان منقستو هيلامريام تناصب السودان العداء كما تفعل الآن يوغندا موسفيني وتبادلت الدولتان بفوارق زمنية ليست بالكبيرة تبادل استضافة كل ما يعادي السودان وإن كان المؤتمر الأول خرج بوثيقة رأتها المعارضة حينها كمدخل للحل لازمة الجنوب، خرج مؤتمر كمبالا الآن بوثيقة أو مصفوفة «الفجر الجديد» وتراها المعارضة أيضًا كمدخل لحل أزمة الحكم في السودان وربما يراها الغرب كمدخل لتوحيد المعارضة ضد نظام كثيرًا ما بحث عن بديله، إلا أن ضعف معارضيه ظل يقدم وصفات دائمة لبقائه واستمراره.
(2)حسنًا.. ونجد أن الملاحظ خلال هذه الفترة أن طبيعة الهجوم اللفظي من الحكومة على أحزاب المعارضة بأنه الأعنف والأقوى خلال السنوات الأخيرة للإنقاذ، وكثير من الألفاظ المستخدمة في قاموس المخاشنة هذه المرة من مختلف رموز الحكومة يدل على ذلك فبداية بخبير المخاشنة الحكومي د. نافع وما اتهم به المعارضة من كذب وتدليس وبأنهم شذاذ آفاق، وبأنهم عملاء للصهيونية، ومن ثم ذهب لأمر التحدي لهم بقوله «جاهزون لكل خائن»، ثم تلاه النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه وعلى الرغم من أنه موصوف بأنه من المقلين لاستخدام الألفاظ الخشنة تجاه المعارضة إلا أنه وجد أن الفرصة مناسبة له ولحزبه الحاكم لتسديد الضربة القاضية على المعارضة والتي تقوم على الدوام بتمكين الحكومة من عنقها دونما مقاومة ـ وفي كثير من الأحيان أحس أن استمرار المعارضة بهذا الشكل به ضمان لاستمرار الحكومة في أي انتخابات قادمة وهذا تقدير شخصي ـ حيث توعد النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان المعارضة بعد أن وصفهم بـ (الذين تسببوا في ظلم السودان وظلم الفقراء من أهله ومواطنيه بإثارتهم للمشكلات والأزمات) بسقيهم كدراً وطينًا.
(3)بالمقابل لم تركن المعارضة للهدوء ولمقابلة هجوم الحكومة بالاستسلام الشديد كعادتها سابقًا وإن كانت قد تحصّنت عند بداية عاصفة الهجوم بساتر هدوء والصمت ثم الإنكار، وعندما لم يجد تكتيكها مع الحكومة أخرجت ألسنتها ونزعت عنها أقنعتها، وبادلت الحكومة اتهامًا باتهام، ما عدا حزب الأمة ـ والذي أصبح يجيد إمساك العصي من المنتصف، كما يرى أستاذ العلوم السياسية د. أحمد المصطفى الذي تحدث لـ «الإنتباهة» ـ ففي الخطبة الأخيرة له الجمعة الماضية بالنيل الأبيض منطقة «أم مرابيع» أجاد الإمام الصادق المهدي لعبة شطرنج السياسة فهاجم الطرفين المعارضة والحكومة وأتاح لحزبه منطقة وسطى «بين بين» فتارة يصب غضبه على المعارضة وعلى موقعي الفجر الجديد ويؤكد على معارضته لها ولأي انقلاب بالقوة على السلطة الحالية، وتارة يكيل اللوم للحزب الحاكم
ويدعو لنظام جديد في السودان بكل الوسائل باستثناء العنف والاستنصار بالأجانب. وبدورها المعارضة تجد أنها قد «تعرت» بالكامل أمام المواطن البسيط عبر سيل من الألفاظ الخشنة من الحكومة ومن حزب الأمة القومي فتلجأ أيضًا لذات الأسلوب المرفوض لها في السابق، وتكيل الاتهامات للحكومة بأنها في مرحلة «خراج الروح» حسبما قال رئيس تحالف المعارضة أبو عيسى للزميلة «السوداني» من قبل خلال الأيام السابقة، ويرجع أبو عيسى الهجوم العنيف على حد قوله إلى أن النظام بدأ في التفتت، وأن الحكومة باتت تشعر بقرب توحد المعارضة، بينما يفسر البروفيسور حسن الساعوري لذات الصحيفة هجوم الحكومة على المعارضة بأنه رسائل مصوبة تجاه عدد من الجهات من بينها جهات داخلية، وعلى الرغم من حالات المخاشنة اللفظية العنيفة الموجودة، إلا أن الساعوري يؤكد أن باب الحوار ما يزال مفتوحًا ـ ويميل د. أحمد المصطفى في حديثه لـ «الإنتباهة» لتلك الفرضية ويعد كل ما يحدث في الساحة أنه جزء من التكيتك السياسي السلبي لمجمل العملية السياسية بالبلاد، ويشير إلى أن الأمر ربما يكون جزء من عملية «حرق» الآخر، خصوصًا أن الانتخابات القادمة باتت على الأبواب (2015)، وأصبح الكل يستعد لها عبر حملات الإقصاء للآخر.
وما بين تشابه الأحداث والمناظر بين القادمين لصالة الوصول لمطار الخرطوم من مؤتمر أمبو نهاية الثمانينيات، وما قام به حينها وزير الداخلية مبارك الفاضل من اتهام للمشاركين بالخيانة العظمى وبين ما تم في مؤتمر كمبالا «الفجر الجديد» واتهام الحكومة للمعارضة بالعمالة والارتزاق، وبين هذا وذاك جرت العديد من المياه تحت جسر البلاد، ولكن تبقى الكثير من الأسئلة الملحة عن استقرار البلاد محل استفهام، ويبقى الشيء الوحيد محل الاتفاق حوله بين الحكومة والمعارضة صرخة الشاعر دنقل «لا تصالح»…!!
صحيفة الإنتباهة
معتز محجوب