رحل «الحوت» بالعاصمة الأردنية «عمان»، بعد معاناة لم تدم طويلا مع المرض، وبعد حالة ترقب وأمل طويلة، الألسن تلهج خلالها بالدعاء، والقلوب تسأل مالك القلوب شفاء مطربهم المحبوب، وظل الناس مشغولين بأخبار مرضه، بين مصدقين ومكذبين، هل تغيب الظاهرة المسماة «محمود عبد العزيز»..؟! نقلت تقارير صحافية دخول المغني في حالة «موت سريري» استمرت زهاء أسبوع، بيد أن معجبيه كادوا يفتكون برواة الأخبار..! ومن مفارقات الأقدار الحزينة، أن مغنيا آخر، يحظى بشعبية واسعة بين الشباب رحل في ذات اليوم من عام 1996. وحول معجبوه من يوم رحيله «مناسبة فنية» يحتفون بها كل عام رغم مرور قرابة عقدين من الزمان، ومن عجب أن معجبي «الحوت» من ذات الشريحة التي يأسرها غناء ومواقف الراحل مصطفى سيد أحمد، ما يجعل ذكرى رحيل محمود «حزنين» في يوم واحد.
يرتبط جماهير «الحوت» به وبأغنياته وحفلاته ارتباطا يقارب الهوس، مثلما يرتبطون بـ«رفيق يوم الرحيل مصطفى»، فالفتيات المتيمات بالغناء الجديد، وبالثورة، والفتيان العشاق، لا يقبلون «كلمة» في حق مصطفى، مثلما لا يقبلونها في الراحل «الحوت»، ويكفي «إلغاء حفل غنائي لمحمود»، لتحويل المكان لثورة شبابية.
أصاب رحيل محمود شباب «السودانيين» بحالة حزن عميمة عقب شيوع «نبأ الوفاة» الفاجع، لأنه لم يكن مجرد فنان بل كان ظاهرة «احتجاج» وتيار رفض بغنائه وبمواقفه الحياتية والإنسانية.
نشأت من حب الناس له مجموعات شبابية تتحلق حوله وتحمل اسمه وأشهرها «محمود في القلب»، لعكس دوره الإنساني الذي ظل يلعبه المطرب الراحل.
ولا يقتصر العشق المهووس للراحل على السودان الشمالي، الجنوب السوداني – رغم الانفصال – يعشق أغنياته وألحانه وحنجرته الذهبية، وكثيرا ما تطلبه جوبا ليطرب لياليها، ما جعل رئيس اتحاد الفنانين يصفه بـ«الظاهرة» التي تستحق الدراسة.
وهكذا خط العام الجديد بقلم الفجيعة على مشاعر الناس هنا في الخرطوم وفي جوبا أحزانا وكلمات، تضاف إلى أحزانهم المزمنة أصلا.
يتمتع الراحل «محمود عبد العزيز» بصوت قوي وقدرات تطريب عالية، وحضور آسر، و«أذن ذواقة» تستل اللحن القديم فإذا هو جديد يسعى، وتنقد اللحن الجديد فتنساب الموسيقى طروبة وأليفة تسبي قلوب المعجبين الشباب.
ووصف الأمين العام لـ«مجموعة محمود في القلب» الراحل بأنه قدم نفسه للشعب السوداني والعربي والأفريقي ووجد قبولا منقطع النظير.
ويرى الكاتب وأحد محبي غناء الراحل «الطاهر ساتي» أن ما كان يميز محمود عن الآخرين، هو جمهوره العريض الذي استقطبه في زمن اتسم مناخه السياسي بأنه كان ضد «الفنون» بما في ذلك الغناء، ونجح محمود أن يفرض فنه على الواقع، وفتح نوافذ الإبداع أمام الذين قمعهم «الخطاب السياسي» سنوات الإنقاذ الأولى.
ويضيف ساتي: «جمع محمود بين الأصالة والحداثة في لونيته الغنائية، ولهذا فجمهور عبارة عن طيف اجتماعي من مختلف الثقافات، يضم «الأب والابن والحفيد».
يقول الناقد الفني أحمد دندش لـ«الشرق الأوسط»: «محمود ظاهرة» لن تتكرر، وإنه «ظاهرة رفض» استقطبت الشباب، وجعلت منه «حزبا» يناصره الملايين، يشدهم إليه الغناء الشجي، والصوت العميق، والمواقف الحياتية البراقة.
ويضيف «قرشي عوض»، أحد محبي الفنان أن محمود كان ظاهرة وتيار رفض لكبت الحريات، ومواقفه الفنية وصداماته الكثيرة مع «شرطة النظام العام» تشهد على ذلك، وكان يمكن لأنصار الحرية وأعداء الديكتاتوريات أن يستفيدوا من «حزب محمود» في معاركهم من أجل الحريات، ومواجهة القوانين القمعية.
بدأت رحلة «الحوت» الغنائية أواخر ثمانينات القرن الماضي، ودون مقدمات فرض نفسه فنانا كبيرا وحظي بقبول جماهيري لم يحدث أن لاقاه فنان، وتزايدت جماهيريته باطراد حتى انتزع لقب «فنان الشباب الأول».
الخرطوم: أحمد يونس
الشرق الأوسط