كان وهو يقود السيارة يشعر بدبيب الحمى على مسام عصية، إلى حد الدوّار، بدلته الكحلية الكاملة، وربطة عنقه، وأزرار قميصه (البيجي) تضغط على أنفاسه وجسده، ونبيذ (الساكس) يعانق روحه عناقاً شائقاً ويحلق بها في فضاء الشارع العريض فتلك هي ليلة العمر.. ونظر من طرف خفي إليها وهو يقود السيارة نعم هي بلحمها ودمها (ندى) عروسته.. تجلس جواره على المقعد الأمامي..
قال لنفسه: إنها جميلة.. ولكنه لم يكن يتصور أن تكون بهذا الجمال في هذه الليلة.. شيء لا يصدَّق، عندما ذهب ليصطحبها من (الكوافير) إلى حفل الزفاف ورآها واقفة، فارعة، صبية، جميلة، بفستان الزفاف، ونقوش الحناء، وذلك العطر الخرافي، تجمد البيان على شفاهه المرتعشة، صافحها ولم يستطع أن يسمع صوته، وصافحته هي تشرق بعيونها على شبابه وملامحه وزيّه، دون أن تسمع صوتها، كان المشهد مثل أحد مشاهد السينما الصامتة.
هل انتهت سني الانتظار ومنذ أن رآها من خلال شريط (الفيديو) وهي ترقص في حفل زواج شقيقه، تسارع وجيب قلبه، ولم يزل يخفق بعنف حتى الآن. كان ذلك في مدينة الشارقة بالخليج منذ ثلاث سنوات، أرسل لشقيقه وسأل عنها وتسارعت الخطى الأولى، تمت الخطوبة، ثم عقد القران، ولكنه لم يستطع أن يكمل بقية المراسم في حينها إذ كان عليه أن ينتظر حسب رغبتها إلى أن تكمل دراستها الجامعية، لم يجلس معها ولم يحادثها الا مرة واحدة وكان ذلك وسط أسرتها عندما عاد إلى السودان في إجازة قصيرة بعد أن تمت الخطوبة وعقد القران ولكنه يذكر أنها لم تنبس بحرف واحد في ذلك اللقاء.
هي (ندى) بلحمها ودمها تجلس إلى جواره في السيارة وهو يقودها في شوارع الخرطوم نحن الفندق الذي حجز فيه غرفة لقضاء أجمل أيام العمر. (الساكس) يصدح يحاور أوركسترا بكاملها، وهي صامتة تنظر إلى الشارع من خلال زجاج السيارة بعطرها وشبابها وجمالها يزرعون الحمى في مسام جسده، و(بدلته الكحلية) و(أزرار) قميصه، وربطة عنقه يضغطون على جسده وأعصابه، رفع يده وأرخى ربطة عنقه، وفتح أزرار قميصه العليا، ومن فرط اضطرابه مست يده كتفها وهو يعيدها إلى مقود السيارة، صدرت منها صيحة مفزعة وهي تقفز بجسدها حتى التصقت بباب السيارة بعيداً عنه، أراد أن يقول شيئاً ولكن صوته خرج متحشرجاً وأقرب إلى (الهمهمة) أدخل يده بحذر إلى جيب سترته وأخرج منديلاً مسح به سيل العرق الذي كان يتفصد بغزارة من وجهه وعنقه.. حاول مرة أخرى أن يقول شيئاً يكسر من حدة التوتر والصمت.. وأخيراً سمع صوته وهو يميل بوجهه قليلاً نحوها.
مالك يا ندى؟
أدارت رأسها سريعاً نحوه، وعادت مرة أخرى للنظر أمامه وهي تلتصق أكثر بباب السيارة.. نظر نحوها مرة أخرى وأعاد السؤال.
مالك؟!
مالي.. مالي يا خي..
أراد أن يستعيد نبرات صوتها مرة أخرى أكثر من معرفة إجابة السؤال فقد أحس برنة غريبة في ذلك الصوت، شيء لم يستطع تحديده.
مالك عملت كده؟
عملت شنو؟
زي.. زي.. الاتخلعتي.. وانعصرتي شديد على الباب..
سمع ضحكة عذبة وكأنها تحاور صوت (الساكس) الذي كان لا يزال بدوره يحاور أوركسترا كاملة.. أدارت رأسها تنظر إليه بتأمل.. ازداد وجيب قلبه إيقاعاً وأحس كأن نظرتها تحرق صدغه..
عجبتك؟
شنو؟
الحركة دي..
أدار رأسه ونظر إليها بدهشة..
ــ ياتو حركة؟
ــ لما يدّك جات في كتفي.. نطيت وانعصرت على الباب.. حركة حلوة مش؟
وانفجرت ضاحكة من جديد أحس بمفارقة عجيبة بين طريقة حديثها وعذوبة ضحكتها.. بدت له طريقة حديثها ببصمة صوتها وأسلوبها في نطق الأحرف وهط الكلمات وكأنها بالغة الـ … أراد أن يقول العبط ولكنه استدرك لنفسه وقال الدلع.. أما ضحكتها فإنها ذات جرس عجيب يُطير الصواب ومن بين ضحكتها أردفت بنفس الصوت الغريب..
الحركة دي شفتها في فيلم السهرة في التلفزيون الأسبوع الفات..
بالله!!
والله..
ازداد وجيب قلبه ولكنه لم يكن هذه المرة بفعل جمالها وشبابها وعطرها وإنما بسبب إحساس غريب أخذ ينتابه إحساس أقرب للفزع.
أحس أنها عادت تتأمله والموسيقا تصدح من (ستريو) السيارة..
ــ أنت بتحب الموسيقا؟
أنت بتحب الموسيقا؟
موت..
أنا ذاتي..
أدار رأسه نحوها وكأنه أراد أن يحس بشيء من الطمأنينة
ــ بالله!!
والله.. وبغني جنس غنا.. لما نصل الفندق والله أغني ليك جنس غنا.. زي نجوى كرم في التلفزيون.. ما بخليك تنوم.. ارتفع إيقاع ضربات قلبه برعب حقيقي والعربة تدلف نحو البوابة الخارجية للفندق..
الساعة تكون حسع كم؟
نظر إلى ساعته وهو يشعر بالدهشة للسؤال.
واحدة .. واحدة صباحاً انفجرت ضاحكة وهي تضربه بكف يدها على كتفه بصورة أربكت قيادته للسيارة وهو على مشارف التوقف أمام بوابة الفندق الداخلية.
طبعاً حتكون واحدة صباحاً.. يعني حتكون بعد الظهر.
قالتها بصوت أثقل إحساسه بمزيد من الفزع لم يستطع أن يقول لنفسه هذه المرة إن طريقة حديثها بالغة الدلع، وإنما قالها لنفسه بالغة العبط ولا تخلو من قدر من عدم التوازن. أمام موظف الاستقبال وبعد أن فرغ من إجراءات دخولهما إلى الفندق وحمل الحامل حقائبهما وتوجه إلى المصعد، أخذت مفاتيح الغرفة بيدها بسرعة وهي ترى موظف الاستقبال يمد يده بها إليه، وانفلتت ضاحكة في صخب وهي تتقدمه خلف العامل نحو المصعد..
ــ زمان في إعلان في التلفزيون يا عصمت العروس هي الفتحت باب الأوضة في الفندق والعريس وراها. والله إلا أسوي زيها.. داخل المصعد كان عامل الفندق ينظر إلى وجهها في دهشة كأنه ينظر إلى و جه مخلوق هبط من كوكب المريخ.. تذكر هو ذلك الإعلان الذي كان في رأيه يعكس الصورة تماماً إلى حد الطرافة ولم يدر بخلده أن هذا المشهد سوف ينطبق عليه في ليلة العمر.
كان للصمت فحيح ووجيب وهي تجلس على الكرسي الكبير داخل الغرفة وهو يجلس على طرف السرير والباب مغلق وقبل أن يسترد صفاء عقله وعافية أعصابه، انفجرت هي ببكاء عنيف.. ألجمته الدهشة واستعاد رقة قلبه واستنفر وعيه وكياسته ولطفه ليبدأ ليلة العمر بحدث رقيق يهدهد أعصابها.
ــ ندى.. في ليلة زي دي المشاعر بتكون متضاربة.. في مرحلة جديدة في حياة الزول تبدأ بعد العرس، وطبعاً..
قفزت من السرير من الفزع وهي تصرخ في وجهه من خلال نشيجها..
يا خي ملعون أبو العرس.. انت قايلني ببكي ليه؟
عشان الليلة الحلقة الأخيرة من المسلسل في التلفزيون وما شفتها، وقبل أن يستوعب تماماً غرابة الموقف أردفته من خلال صخب نشيجها بلهجتها المثقلة بالعبط.
وبكرة ما بقدر أشوفها في الإعادة.. أنا طوالي بفطر بدري.. وبنوم لغاية العصر…
صحيفة الإنتباهة
هاشم صديق