هل تخطف “إثيوبيا” المبادرة من “أمبيكي” وتُصلح ما أفسده الإنفصال؟!

[JUSTIFY]{ في أول عبور لحدود بلاده خارجياً اختار رئيس الوزراء الإثيوبي “هايلي مريام دسالجين” الخرطوم كمحطة أولى لتقديم وجهه السياسي كلاعب إقليمي حديث عهد بالفضاء الأفريقي، يقود دولة لها إرث وتقاليد في تفكيك الأزمات وتسوية النزاعات.. وطرح رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد مبادرة لإصلاح ما بين الخرطوم وجوبا وصلاً لمبادرات وجهود ومساعي الرئيس الراحل “ملس زناوي” الذي استلهم هو الآخر من روح الإمبراطور “هيلاسيلاسي” المبادرة والمبادأة، خاصة في الشأن السوداني والصومالي.

ويباهي الإثيوبيون بدورهم في التوسط بين الفرقاء السودانيين في سبعينات القرن الماضي – (اتفاق أديس أبابا بين الرئيس “جعفر نميري” ومتمردي أنانيا 2) – ومنذ ذلك الحين ظلت إثيوبيا عاملاً مهماً في استقرار أو زعزعة السودان، وقد غذَّى رجال المخابرات المصرية مخيّلة السودانيين بمقولة (إثيوبيا أكبر مهدد لأمن السودان) حتى ترسخ في أذهان البسطاء من الساسة باعتبارها حقيقة لا تقبل الجدال.

وقد أثبتت إثيوبيا أنّها الأقرب للمزاج السوداني وليست عدواً كما يتوهم البعض.. والمخابرات لها أذرعها الثقافية والإعلامية في بث ما يخدم قضايا بلادها، فهل كان السودان ضحية لمؤامرات بعض أجهزة المخابرات الإقليمية؟!
{ رئيس الوزراء الإثيوبي “هايلي مريام” حينما يجعل من الشأن السوداني أولوية قبل الصومال والعلاقة مع جيرانه الآخرين، فإن مبعث الاهتمام تمليه عليه مصالح إثيوبيا في (السودانين) الشمالي والجنوبي، وقد ظلت أرض السودان تحتضن الإثيوبيين ويقتسم الشعبان (الفتريتة) والماء القراح والموسيقى و(الزقني) و(القهوة)، عطفاً على التداخل السكاني على الحدود.

{ وبعد استقلال إريتريا وجدت إثيوبيا نفسها دولة بلا موانئ بحرية بعد أن كانت دولة (مفتاحية) في المحيط والبحر الأحمر.. فلاذت إثيوبيا بالسودان وأضحى ميناء بورتسودان شرياناً يغذي الجسد الإثيوبي (المجروح) باستقلال أريتريا وفقدانه لموانئ مصوع وعصب وغيرها.. وللإثيوبيين مصالح في دولة الجنوب التي ولدت في أحضان إثيوبيا ورعت أديس أبابا الحركة الشعبية من الطفولة وغذتها حتى نهضت كحركة سياسية وعسكرية ونالت مبتغاها باستقلال دولتها..

{ لتلك الأسباب مجتمعة وغيرها من أجندة الإثيوبيين – وهم يمثلون رقماً مهماً في القارة الأفريقية ووكيلاً كبيراً للولايات المتحدة في المنطقة – جاءت مبادرة رئيس الوزراء الإثيوبي لجمع الرئيسين “عمر البشير” و”سلفا كير ميارديت” مرة أخرى في إثيوبيا لتبديد شبح انهيار وفشل اتفاق التعاون المشترك بين الدولتين، الذي استحال تنفيذه بعد أن واجهته تعقيدات الأمن وحرب المنطقتين وأزمة أبيي وتربص كل دولة بالأخرى وانتظار سقوط النظام الحاكم في أي من العاصمتين، كأن جروح الحرب التي امتدت لنحو (40) عاماً لم تكف السودانيين من (نهم) قتل بعضهم البعض!!

{ والمبادرة الإثيوبية الجديدة التي أطلقها “هايلي مريام” – ووجدت التأييد والدعم من العاصمتين – تواجه بذات الأسباب التي أدت لفشل كل جهود السيد “أمبيكي” الوسيط الأفريقي المشترك.. ولكن لإثيوبيا مبادرة وئدت من قبل وهي (اتفاق نافع عقار) بين المؤتمر الوطني ومتمردي قطاع الشمال، وإذا ما أفلح رئيس الوزراء الإثيوبي “دسالجين” في ضخ الحياة في جسد الاتفاق الميت كخطوة موازية لجهد إنقاذ اتفاق “أمبيكي” من الفشل والسقوط، فإن إثيوبيا قد تحقق نجاحاً يدعم موقف رئيسها الجديد وينقذ الإقليم من شبح حرب يطل بين فينة وأخرى بين السودان وجنوب السودان!! وتقف المواجهات التي جرت الأربعاء الماضي في منطقة (الرقيبات) بين الجيش الشعبي لدولة الجنوب وبدو الرزيقات كشاهد إثبات على أن بوادر الحرب قد أطلت بوجهها الكالح على المنطقة.. لكن إثيوبيا قد تنقذ الموقف وتُعيد الحياة لاتّفاق التعاون المريض منذ التوقيع عليه.

{ ذهب وبترول و(جنجويد) و(تربورا)!! أخيراً خرج من أرض دارفور الذهب (الأصفر) والذهب الأسود، وقبل افتتاح منافذ لشراء ذهب دارفور الذي بلغ إنتاجه اليومي (70) كيلوجرام من الذهب الخالص ومن منجم واحد (جبل عامر) في محلية السريف بني حسين.. خرجت من باطن (تراب) شرق دارفور بمحلية عديله (10) آلاف برميل من البترول الأسود ليضاف لـ (6) آلاف برميل من نفط حقل البرماية في ولاية غرب كردفان.. وتمدد البترول في أرض دارفور وخروج الذهب بكميات تجارية من (السريف بني حسين) يمثل حدثاً مهماً تسرب من دارفور وبثّ الأمل في النفوس بعودة فارس السودان الجريح وغروب شمس حقبة من الزمان (البائس) وإطلالة عهد جديد.

{ ولم تغذِّ دارفور مخيلة السودانيين في الـ (10) سنوات الأخرى إلا بكل ما هو مخز و(مؤسف)، وغطت أخبار الموت والصراعات القبلية والنهب المسلح ومعسكرات النازحين و(التربورا) و(الجنجويد) على كل إشراقات إقليم دارفور.. ولكن نهايات العام الذي رحل عنّا ولم تتبق منه إلا ساعات شهدت خروج النفط الأسود من شرق دارفور والنفط الأصفر من شمال دارفور وهدوءاً نسبياً في مسارح القتل والسحل والنهب. فهل تخرج دارفور عن تقاليدها غير الموروثة من تاريخها وتعود لدورها الطليعي والمنتظر والمأمول فيها (قدح يغذي مائدة أهل السودان) وسيف يصد عنهم عادات الزمان؟! لا خنجراً يتم غرسه في جسد الشقيق فينتحر الوطن بسلاح أبنائه!!

{ وفي حقل (جبل عامر) لتعدين الذهب ألقت عناصر (التربورا) بسلاحها وألقت عناصر (الجنجويد) بسلاحها، وأقبلوا جميعاً يحفرون الأرض ويدقون الصخر من أجل مصالح اقتصادية جعلت البندقية ليست أولوية. وقد صدقت نبوءة الولايات المتحدة الأمريكية حينما وصفت أزمة دارفور بأنّها محض قضية اقتصادية!! وكان منتظراً من اتفاقية الدوحة إتاحة مناخ يغري المسلحين بوضع سلاحهم والإقبال على منافع أخرى، والصدفة وحدها هي التي جعلت منجم (جبل عامر) منطقة تجمع المؤتمر الوطني و(التربورا) و(الجنجويد) و(التحرير) و(العدل والمساواة).. ولكن حقل( الزرقة أم حديدة) من تدبير الإنسان وجهد وزارة النفط وشركات سودانية وأجنبية، فهل تردد دارفور القول المأثور (وداعاً للسلاح)؟!

{ زيت السياسة وبيت الاقتصاد!! حينما تحدّث السيد بدر الدين محمود نائب محافظ البنك المركزي في برنامج (حتى تكتمل الصورة) التلفزيوني، خلع عباءة موظف الدولة وارتدى قبعة الناشط السياسي، ليحدّث المشاهد عن تحريات للسلطات حول حسابات مصرفية لـ (27) من رجال الأعمال والشركات والمنظمات في شأن صلتها بالمحاولة الانقلابية الأخيرة.. ولم يكشف السيد نائب محافظ البنك المركزي هل السلطات التي تتحرى عن حسابات رجال الأعمال هي بنك السودان أم الشرطة التي تتولى التحري مع الانقلابيين.. وهل موظف عام مثل نائب مدير البنك المركزي مخول له الحديث في الشأن السياسي مثلما يتحدّث السيد بدر الدين محمود؟! رغم أن (راعي الضأن) في المسيد ومزارع الكركدي في (الدم جمد) يعلم تاريخ بدر الدين محمود في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، حتى إنه كان مرشحاً لتولي منصب وزير المالية، ولا تزال فرصته قائمة، ولكن الانتماء السياسي لا ينبغي له أن يفقد الموقع الوظيفي حياديته وقوميته، وإذا أضحى موظفو الخدمة المدنية ناشطين سياسيين في مفاصل الأحداث أو يتحدثون بلسان القيادة السياسية فإن الخدمة تفقد أهم خصائصها.

{ ونسأل السيد محافظ البنك المركزي: هل إذا ثبت اشتراك رجل أعمال بصفته الشخصية في محاولة انقلابية ما، كالتي تتحرى السلطات الآن مع قادتها، هل يبرر ذلك تجميد حسابات رجل الأعمال لتبدأ تجارته في الخسران وتتعرض شركاته للخسائر الفادحة وربما تكتشف لاحقاً براءته؟

ومن غرائب أقوال السيد نائب محافظ البنك المركزي علناً إن (42) من تجار العملة والمضاربين جمد بنك السودان أرصدتهم وإنّ التجميد سيطال (76) آخرين.. وتجار العملة من الكبار لا تطالهم إجراءات المحاسبة ولا يستطيع بنك السودان الوصول لبعضهم، وقد فشل بنك السودان في الكشف عن أسماء (جوكية) المصارف وما وراء (الجوكية)، ولكن بنك السودان سلطته ونفوذه وقدرته لا تتجاوز البؤساء الذين يأكلون الكسرة من عائدات (دولار ريال) في شوارع الخرطوم ممن يتصيدون المواطنين الذين يصرفون مبالغ صغيرة لسد جوع البطن.. بينما تجار العملة الحقيقيين في (مأمن) بعيدين عن سلطات البنك المركزي وأغلبهم من المتنفذين في السلطة أو أصهار الوزراء وأبناء الوزراء وإخوان المساعدين والذين (يدخلون) البرلمان لحماية تجارتهم في السودان، وقد (شرعت) الدولة للوزير ممارسة التجارة والزراعة، ومجلس الوزراء حينما تنظر لصوره تتبدى في مخيلة المتلقي من هو المزارع ومن هو المضارب ومن يملك بيوتاً مُشيدة في جزيرة النخيل بدولة الإمارات العربية المتحدة، ومن تعيش أسرته في ماليزيا ويدرس أبناؤه الهندسة في الولايات المُتّحدة..!! والبنك المركزي يتشدد مع البنوك لإلقاء القبض على العاجزين عن رد أموال التمويل الأصغر وهو لا يستطيع النظر في عيون من يحصلون على المليارات من المصارف الكبيرة ويحميهم المنصب والنادي الرياضي والنفوذ.. والسيّد بدر الدين يهدد بتجميد مزيد من الحسابات بعد الـ (42) حساباً ليبلغ عدد المجمدين (76) كأنّه يطلب من الذين ينتظرون دورهم التصرّف حتى لا يتم تجميد حساباتهم.. وتجار العملة يعرفون بعضهم كمعرفة السلطات لهم.. والسيد بدر الدين محمود قوي في حديثه ولكنه غير قادر على جذب عائدات الذهب التي تبلغ (70) كيلو جراماً من منجم واحد في جبل عامر بشمال دارفور لكنها تُهرب لدول الجوار سراً وعلانية.. وبنك السودان يتحدّث ولا يقوى على الفعل الرشيد!

{ هل يصلح غازي لموقع قومي؟! الدكتور غازي صلاح الدين، القيادي النافذ في المؤتمر الوطني ورئيس الهيئة البرلمانية لنواب الحزب الحاكم، رشحته تسريبات في أجهزة الإعلام لمنصب رئيس اللجنة القومية للدستور من جهة المؤتمر الوطني، وجاء التسريب منسوباً للدكتور إسماعيل الحاج موسى نائب رئيس مجلس الولايات. وغازي بعد خروجه من القصر الرئاسي وفقدانه لموقعه كمستشار للرئيس تبدلت لغته وبات ناقداً ومصلحاً بين عشية وضحاها.. وتلك من عجائب السياسيين التي لا تنقضي حينما يفقد أحدهم منصبه ويبحث عن الأضواء ولعب دور جديد.. ود. غازي صلاح الدين بات يقود منبراً سياسياً في بيته خارج منظومة الحزب ويكتب بلهجة (المفارق عينو قوية) مثل عبارة (هذا بلاغ للنّاس) بعد انفضاض مؤتمر الحركة الإسلامية، حيث وجه خطابه الإصلاحي لعامة الناس ولم يقل (هذا بلاغ للإسلاميين)، مع أن القضايا التي تناولها في مقالته لا تهم السودان عامة في شيء.. واليوم حينما يرشح المؤتمر الوطني أحد قادته وصنّاع مجده ورموزه فإنّه بذلك يتجه لوضع دستور لن يحقق الرضاء وسط القوى السياسية التي سبق أن قاطعت لجنة قومية للدستور يقودها مولانا خلف الله الرشيد ود. دفع الله الرضي، فكيف تقبل المشاركة في لجنة يقودها ناشط سياسي في حزب المؤتمر الوطني..؟! لماذا يحتكر المؤتمر الوطني حتى اللجان القومية.. وهل الدستور المرتقب للوطني أم للوطن حتى يُعيّن المؤتمر الوطني رئيس هيئته البرلمانية لرئاسة لجنة يفترض أن تكون قومية ومستقلة عن الأحزاب وتسند رئاستها لشخصية قومية مثل مولانا دفع الله الحاج يوسف أو البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله أو د. الجزولي دفع الله أو عمر عبد العاطي، حتى تجد الاحترام والدعم والثقة من جميع القوى السياسية، وهذا لا يقدح في استقامة د. غازي صلاح الدين واستنارته التي تغلب على انتمائه السياسي، ولكن (الصورة مهمة)، وبث الطمأنينة في أوساط القوى السياسية المعارضة والموالية هي الخطوة المنتظرة، حتى لا (يحيك) ترزية الدساتير والقوانين – أمثال بدرية سليمان التي تمثل الجيوب الشمولية في المؤتمر الوطني – دستوراً يجب من في السلطة ويروق لمن في الكرسي، ولكنه لا يجد احتراماً ولا تقديراً من جميع السودانيين، فيموت مثل عشرات الدساتير التي ماتت وهي ترفل في ثياب عرسها!!

صحيفة المجهر السياسي
يوسف عبد المنان

[/JUSTIFY]
Exit mobile version