في أرض الأحلام
ليس في هذا تقليلاً من شأنهم، ولا تبخيساً لكسب بعض الرموز السودانية في وكالة ناسا أو رئاسة بعض المراكز الإسلامية أو إدارة الشركات. لكن الظروف التي جاء معظم السودانيين بناءً عليها تضعهم دائماً في خانة الرضا والقناعة بالحصول على الجواز الأميركي فقط! كثير من السودانيين لا يحلمون في أرض الأحلام، لو أنني أملك حق النصح لقلت لهم: “احلموا ما شئتم فإني سمعت الإنجليز يقولون إن الأحلام ليست عليها ضرائب”.
؛؛؛
الظروف التي جاء من خلالها السودانيون إلى أرض الأحلام تضعهم في خانة الرضا والقناعة بالحصول على الجواز الأميركي فقط!
؛؛؛
من جاء من السودان إلى أميركا أو من أي دولة من دول العالم الثالث، فإن عليه أن (يفرمط) كثيراً مما تعلمه نظرياً وعملياً.. أن يلغي أغلب مكتسباته القديمة ويبدأ في التزود بمعطيات جديدة لحياة جديدة، ولمن لهم ولع بعلم البرمجة اللغوية العصبية، فإن هذه العملية أشبه بما يسمونه مولد السلوك البديل.. السلوك البديل بتلخيص واختصار هو أن تبعد سلوكاً وتحل مكانه سلوكاً جديداً.
سوء حظ
طائفة مقدرة من السودانيين جاءت إلى أميركا في أعمار متأخرة، تبدأ من منتصف العشرينيات ولا تنتهي بالأربعينات، ولأن عملية الفرمطة والمسح تبدو صعبة يصبح الهم الكبير لهذه الفئة العمرية هو محاولة اللحاق بالآخرين بدلاً من السعي للتفوق عليهم..
وهذا من سوء حظ السودانيين في بلد الفرص والحظوظ، حظوظ لم تمنع رجلا مثل أوباما أن يصبح رئيساً لأميركا رغم أن والده ليس أميركيا
؛؛؛
طائفة مقدَّرة من السودانيين جاءت إلى أميركا في أعمار متأخرة، تبدأ من منتصف العشرينيات ولا تنتهي بالأربعينيات
؛؛؛
(من باب المزاح، قلت للبعض لو أن أوباما كان موجوداً في أي قرية من قرى السودان لا ستحال عليه أن يصبح عضواً -دعك من رئيس- للجنة الشعبية).
بالرجوع إلى حال السودانيين، فإن النسبة الساحقة منهم نالوا الجواز الأميركي وأصبحوا في عداد المواطنين الأميركيين، ولكن مع ذلك فغالبهم لديه نزوع إلى وتعلق بـ السودان رغم الاحباطات الكثيرة التي دفعتهم إلى الهجرة، إحباط يتعلق بالأفق المسدود وضعف الفرص في السودان، واحباط يتعلق باليأس من المشاركة في صنع مستقبل السودان السياسي والاقتصادي و الصحي… ألخ.
موجة التسعينيات
تاريخ هجرة السودانيين إلى أميركا ليس حديثاً بل يعود إلى عشرات السنوات تقريباً في الخمسينيات، ولكن الموجة الأكبر فيما يبدو هي التي هاجرت إلى أرض الأحلام منذ أوائل التسعينيات، وهي التي تنشط حالياً في المنتديات والمواقع الإلكترونية.
؛؛؛
للهجرة إلى أميركا دوافع مختلفة، فمنها هجرة لأسباب سياسية وهؤلاء يتم منحهم حق اللجوء إذا تم قبول الأسباب والحيثيات التي يقدمها طالب اللجوء
؛؛؛
بالطبع، دوافع الهجرة إلى أميركا مختلفة، فمنها الهجرة لأسباب سياسية وهؤلاء يتم منحهم حق اللجوء إذا ما تم قبول الأسباب والحيثيات التي يقدمها طالب اللجوء، وهناك مجموعات جاءت إلى أميركا ضمن برنامج اللوتري، وفئات أخرى صغيرة جاءت إلى أمريكا واستقرت بها لحيثيات متباينة.
لكن الملحظ الأساسي، هو أن هناك مسافات متباعدة ما بين هذا العدد الهائل من السودانيين وبين السفارة السودانية في واشنطن، لمست ذلك من خلال ملخص قدمه لي الدبلوماسي المستشار جمال مالك الذي اشتكى من وجود جفوة بين السفارة وبين كثير من أفراد الجالية، وقال -كما هي عبارته- إن العلاقة بحاجة إلى تمتين.
تمثيل ضعيف
لم تتح لي فرصة الالتقاء بأعضاء بارزين في الجالية سواءً من كان على خلاف أو على اتفاق مع السفارة، إذ لو سنحت هذه الفرصة لاعتدل ميزان المشهد، أقول هذا رغم أن حديث المستشار جمال كان أقرب إلى العتاب منه إلى الهجوم.
؛؛؛
العدد البسيط للعاملين بالسفارة يشير إلى التدني الواضح في العلاقة بين السودان والولايات المتحدة الأميركية
؛؛؛
السفارة السودانية في الدولة الكبرى بالعالم تقبع في مبنى صغير، ويعمل فيها أربعة دبلوماسيين إلى جانب القائم بالأعمال، إلى جانب الدبلوماسيين الأربعة هناك اربعة موظفين محليين يخدمون في السفارة.
العدد بسيط دون شك وهو يشير إلى التدني الواضح في العلاقة بين السودان والولايات المتحدة الأميركية، كما يشير أيضاً إلى عدم القدرة على خدمة حوالى مائة ألف سوداني ينتشرون على امتداد الأرض الأميركية الواسعة.
هجرة اللوتري
منزل السفير السوداني في واشنطن، دليل هو الآخر على العلة التي ضربت جسد العلاقة بين السودان وأميركا.. تبدو على المنزل بسيارتيه السوداوين عراقة واضحة رغم إنه شبه مهجور، وتحرص السفارة السودانية على تعهده على أمل أن يطل يوماً وتعود إليه الحيوية، ويغرد في أغصانه طائر السعد بتواصل سوداني أميركي معافى من العقوبات والاتهامات والتربص والارتياب.
؛؛؛
من يسعفه الحظ ويحصل على اللوتري فإن مهمته الجديدة هو أن يستقطع جهداً من وقته للتقديم لآخرين، وهكذا تستمر السلسلة
؛؛؛
بالعودة إلى السودانيين في أرض الأحلام، فقد فعل اللوتري خيراً للكثيرين حينما حملهم بالحظ والقسمة والنصيب إلى أميركا، وبدورهم نشط هؤلاء الشباب المحظوظين في التقديم للهجرة (اللوتري) لأصدقائهم وأقربائهم في السودان..
من يسعفه الحظ ويحصل على اللوتري، فإن مهمته الجديدة هو أن يستقطع جهداً من وقته للتقديم لآخرين، وهكذا تستمر السلسلة، ولا أدري هل من باب المزاح أم الحقيقة أن هناك قرية في ولاية ميرلاند اسمها (اللوتراب) معظم السودانيين فيها من أصحاب اللوتري.
نكات بطعم سوداني
الطُرف والنكات لدى السودانيين كثيرة خاصة تلك التي تتعلق بطلب اللجوء السياسي أو ذات الصلة بمقالب الترجمة، خاصة إذا كان المترجم إلى العربية ليس سودانياً، ويحدثك الناس هناك كيف أن مترجماً شامياً ترجم كلمة (الدولايب) السودانية إلى معنى العجلات، أو كلمة (البراد المستخدم للشاي في السودان) إلى معنى التبريد، والأمثلة كثيرة.
؛؛؛
ثمة خطر ماحق يتهدد الأسر السودانية في الولايات المتحدة، إنه خطر فقدان القيم الإسلامية والترابط الأسري وقوامة الأب
؛؛؛
ليس كل الغربة عسلاً، ثمة خطر ماحق يتهدد الأسر السودانية في الولايات المتحدة، إنه خطر فقدان القيم الإسلامية والترابط الأسري وقوامة الأب وحقه الأصيل في التربية والتوجيه دون أن ينازعه أحد هذه السلطة.
القوانين الأميركية لا تجعل للأسرة ذلك الدور، وهذا هو الخطر الحقيقي، تظل الأسرة فرحة ما دام الأب قد استقر وتوفرت له أسباب الحياة الكريمة ونال أطفاله تعليماً أكاديمياً راقياً، ولكن كل هذه المنحة الأميركية تنقلب إلى محنة إذا ما زحف الأولاد نحو عامهم الثامن عشر، حينها لا ترتخي قبضة الأب التربوية وقوامته الشرعية، ولكنها تفلت إلى الأبد.
قلق أسرى عظيم
الخياران المطروحان في هذا السياق، إما أن تبقى حيث أنت وتكافح من أجل أن يعيش الأبناء حياة سودانية بنظام أميركي، أو تقبل أن يذوبوا شيئاً فشيئاً في نمط الحياة الأميريكية.. هناك قصص كثيرة يحكيها البعض عن سودانيين في أميركا يريدون العودة أعجل ما تيسر حتى يحافظوا على تماسكهم الأسري.
؛؛؛
بعض السودانيين الأميركان توجهوا إلى الخليج مستفيدين من ميزتين: الأولى جنسيتهم الأميركية، والثانية نوع التعليم والتدريب الذي تلقوه في أميركا
؛؛؛
بعض السودانيين الأميركان افترعوا طريقاً ثالثاً هو التوجه إلى دول الخليج العربي مستفيدين من ميزتين: الأولى جنسيتهم الأميركية التي تمنحهم أفضلية في كل شيء، والثانية نوع التعليم أو التدريب الذي تلقونه في الولايات المتحدة الأميركية وهو لا شك ممتاز مقارنة بالتعليم والتدريب في غيرها من بلدان العالم.
في الولايات المتحدة الأميركية تجتهد الأسر السودانية في تعليم الأولاد في عطلة نهاية الأسبوع (السبت، الأحد) تعاليم الدين الإسلامي والقرآن الكريم، تفادياً من أن يشب الأولاد وهم لا يعرفون شيئاً عن دينهم ولا لغتهم الأم، وهي محاولة جيدة وطيبة تحتاج إلى تمتين (مثل تلك التي تحتاجها العلاقة بين السفارة والجالية).
الشروق
بقلم: مالك محمد طه