دعوة للثورة
وبدا الخطاب بمثابة دعوة صريحة ومباشرة للعالمين العربي والإسلامي للثورة على النظام العالمي الحالي بقيادة أمريكا، الذي ظل يوفر الحماية للفظائع الإسرائيلية عن طريق الفيتو، كما بدا الخطاب محرضاً للعرب والمسلمين، داعياً إياهم للعمل سوياً من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحرير الأرض الفلسطينية، ورفع الصوت عالياً رفضاً للظلم الذي تمارسة القوى الدولية المتنفذة على المستضعفين في الأرض، وذلك في قوله: «كفانا استضعافاًَ.. كفانا هواناً.. كفانا ذلاً، ولابد أن نرفع الراية ونعلي الصوت كما يرتفع الأذان بالتكبير عالياً لنصرة الأمة ولدحر الظالمين ولكسر شوكة المعتدين».. حتى مضى إلى القول: «لا للأمم المتحدة، ولا لمجلس الظلم العالمي، وإن الإسلام قادم من السودان، وباسم الحق ندكُّ الباطل». وأضاف: «نحن للعهد وللقضية وللإسلام».
جاهزية للشهادة
ولعلّ الناظر إلى خطاب طه المفاجيء، لم يلحظ فقط احتشاده بعبارات الثورة على النظام العالمي السائد، ولا لغة الخطاب ذات الجرأة العالية والهجوم العنيف، بل يلحظ بشكل أوضح نبرة الصوت ذات الانفعال الحاد التي تماشت تماماً مع لغة الخطاب، وألهبت مشاعر الكثيرين، ويبدو ذلك أكثر جلاء في هتاف طه في نهاية الخطاب: «الله أكبر لنصرة الأمة.. الله أكبر لكسر شوكة المعتدين.. الله أكبر لتحرير القدس.. الإسلام قادم، والنصر قادم من كل الدول تحت راية الرسول ونور القرآن، وأن الرماة جاهزون..». وقبل أن يختم طه خطابه أكد بشكل واضح جاهزيته للشهادة، وذلك في قوله: «كلنا إلى الأمام.. كلنا من أجل الشهادة، فالإسلام قادم، من السودان قادم ومن مصر.. ومن ليبيا متقدم.. ومن سيرلانكا آتٍ ومن نيجيريا زاحف..»..
طه يتقدم صفوف المواجهة
ربما يطرح أكثر من مراقب سياسي، أكثر من سؤال عن الأسباب والملابسات، والظروف التي دفعت علي عثمان إلى ارتجال مثل هذه الخطب السياسية التي تحتشد بلغة المخاشنة، خاصة في خطاباته الموجهة للخارج والمجتمع الدولي، وهو أمر لم يعتده الناس من قبل على مدى «23» عاماً الماضية، أو بمعنى أدق، لماذا خرج طه من دائرة المهادنة والمسايرة إلى ميدان المواجهة مع «المجتمع الدولي»، ولماذا اختار هذا التوقيت، خاصة وأن هذه اللغة غابت عن خطابات طه في ذروة المواجهة مع المجتمع الدولي والعزلة العالمية المفروضة على الإنقاذ، ولحظة القصف الأمريكي للسودان في 20 أغسطس 1998، والهجمات الصاروخية الإسرائيلية المتكررة على البلاد، وكان آخرها الإعتداء على اليرموك في منتصف أكتوبر الماضي، كل هذا يعزز طرح السؤال بإلحاح، لماذا الآن دخلت مفردات لغة المواجهة في خطاب طه، ولعل ما يجعل هذا التحول في خطابه الموجَّه للخارج، ولأعداء الأمة تحديداً ذا أهمية قصوى هو أن الرجل كان قبل هذا الخطاب يمثل تيار «المهادنة» مع الغرب وأمريكا، بعكس تيار «المواجهة» الذي يمكن تحسسه في خطابات الرئيس البشير، ومساعده الدكتور نافع علي نافع.
إنهاء مرحلة المهادنة
بهذه الخطوة، يكون الشيخ علي عثمان، قد عمل بشكل واضح على إنهاء الفواصل بين التيارين، وبهذا تصبح هناك لغة جديدة «موحدة»، وخطاب جديد «موحد»، وتعامل جديد مع الغرب وأمريكا، ولعل هذا أيضاً ما سبق إليه وزير الخارجية علي كرتي الذي عاد مبكراً إلى «عش» الصقور بعد قناعته بعدم جدوى المهادنة والدبلوماسية الناعمة مع أمريكا والغرب، وعليه يرى أكثر من مراقب سياسي، أن خطاب طه الأخير، ومن قبله كرتي، كان بمثابة إعلان لإنهاء مرحلة «المهادنة» وتوحيد العمل تحت راية «المواجهة» مع الغرب وأمريكا وإسرائيل بعد «23» عاماً من مسايرة الضغوط، وإحناء الرأس للعاصفة ريثما تمر.
أربعة أسباب وراء طه
وبالعودة إلى السؤال الجوهري المطروح: لماذا اختار طه هذه اللغة في هذا التوقيت، يمكن الإجابة عن السؤال من خلال المعطيات التالية:
أولاً: ربما شعر طه أن الوقت بات مناسباً لفك عقال لغة المواجهة والهجوم، خاصة في وقت لم تكن الحركة الإسلامية السودانية وحدها الحاكمة في المنطقة، بل أن حركات «الإسلام السياسي» أصبحت تياراً كاسحاً وجارفاً بعد وصول الكثيرات منها إلى سدة الحكم في دول المنطقة، ولم تعد هذه الحركات كما كانت في السابق مخنوقة ومحاصرة ومضيّقاً عليها، بل تحولت من الزنازين إلى القصور الرئاسية، وبالتالي يمكن الاستقواء بها ودفعها نحو المواجهة.
ثانياً: وتأسيساً على النقطة أعلاه، ربما أراد طه أن يعلن أن الزمن الآن هو زمن الحركات الإسلامية والانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم ودفع الظلم، ومن سرية العمل إلى علنية المواجهة، خاصة وأن هناك الكثير من دول المنطقة حبلى بحكومات إسلامية، وهذا ما أشار إليه بأن الإسلام قادم من كذا وكذا.
ثالثاً: من حيث التوقيت، جاء خطاب طه في وقت تعتمل فيه النفس بمرارة القصف الإسرائيلي المتكرر على السودان، وغزة، ومساندة أمريكا لجوبا.
رابعاً: خطاب طه أيضاً ربما جاء تعبيراً صادقاً عن يأس الخرطوم من وعود الغرب وأمريكا، وتبيَّنت الحكومة السودانية، أنها مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، ولكم جاءت الخرطوم إلى عنده متعشمة، ولم تجده شيئاً.
تحليل: أحمد يوسف التاي
صحيفة الانتباهة