وسارت المحادثات بوتيرة بطيئة في هذه الجولة رغم أنها الأخيرة حسب مجلس السلم الافريقي، وقرار مجلس الامن الدولي 2046، وشهدت الأيام الماضية جمودا بدد الآمال بتسوية كافة القضايا العالقة المتصلة بفك الارتباط بين الدولتين،مما يضع مستقبل عملية السلام بينهما أمام ثلاثة سيناريوهات،تحددها نتائج قمة البشير وسلفاكير.
وينتظر الوسطاء والمبعوثون الدوليون أن تحقق القمة اختراقا في الملف الامني الذي وقف عائقا امام تقدم المفاوضات منذ الجولة السابقة،لتمسك الطرفين بمواقفهما،ولم تستطع الوساطة طرح مقترح لتجاوزه لأنها صارت طرفا،باعتبارها صاحبة الخريطة التي تحدد المنطقة العازلة بين الدولتين التي اعتمدها مجلس الأمن، حيث وافقت عليها جوبا ورفضتها الخرطوم.
وتزحزح الوفد السوداني أخيرا عن موقفه قليلا ،عقب تلقيه ضمانات من الوسطاء بأن تكون الخريطة التي قدمها لتحديد المنطقة العازلة مؤقتة لأغراض الاتفاق على الشريط العازل ولا صلة لها بترسيم الحدود، لكن ذلك لم يقنع الطرف الجنوبي الذي حققت له الخريطة مكاسب لا يريد التخلي عنها،إلا بثمن غال هو تقديم السودان تنازل في ملف أبيي أو المناطق المخلتف عليها الأخرى.
وعقد طرفا المحادثات لقاءات أمس أتسمت بروح ايجابية حسب مفاوضين من الجانبين التقتهم «الصحافة»،غير أنها لم تحقق اختراقا يغير مجرى التفاوض،وأكتفيا بمعالجة تفاصيل محدودة في الملف الاقتصادي وتحرير نقاط الاتفاق والخلاف لطرحها امام البشير وسلفاكير.
وبات الملف الاقتصادي شبه محسوم بعدما اتفقت الدولتان على رسوم معالجة وعبور نفط الجنوب عبر السودان في الجولة السابقة،وتبقت نقاط محدودة تتصل بباخرتي نفط صدرهما السودان من دون موافقة الجنوب قبل وقف ضخ النفط في يناير الماضي، احداهما احتجزت عائدات ما كانت تحمله في لندن وحاليا القضية أمام القضاء هناك،وأخرى متوقفة في أعالي البحار،حيث يطالب الجنوب بعائدات نفط الباخرتين التي تقترب من مائتي مليون دولار،بينما تقترح الخرطوم اقتسام عائداتهما مناصفة بينهما،وكذلك لا يزال ملف شركة (سودابت) التي وضعت حكومة الجنوب يدها على أصولها في الجنوب في انتظار الحسم.
وكان ملف المعاشات قد أتفق على معالجته غير أن وفد جنوب السودان أثار نقاطا جديدة في الأيام الماضية،حيث كان الاتفاق على تحويل معاشات الجنوبيين الذين كانوا يعملون في السودان الى المدن الجنوبية،والعكس للسودانيين الذين كانوا في الجنوب،وتراجعت جوبا مطالبة بتحويل المعاشات ليس الى الجنوب فحسب بل الى دول المهجر التي يوجدون فيها،ورفضت تحويل معاشات السودانيين في الجنوب الى الخرطوم باعتبار أنهم كانوا في دولة واحدة وحقوقهم في دولتهم الأصلية.
ويبدو أن ما أدى إلى تراجع دولة الجنوب عن موقفها هو أن فك الإرتباط بين الفرقتين التاسعة والعاشرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق عن (الجيش الشعبي) في الجنوب ستترتب عليه حقوق مالية كبيرة للمقاتلين من أبناء جبال النوبة والنيل الازرق في الجيش الجنوبي،ولا تريد جوبا تحمل ذلك لوحدها،وتغيير موقفها في اللحظات الأخيرة تستهدف من ورائه تحميل الخرطوم جزءا من حقوق المقاتلين أو تكفل الدول الراعية لاتفاق السلام «الولايات- بريطانيا – النرويج» بذلك عبر استقطاب دعم من المانحين.
والملف الأكثر تعقيدا هو الأمن فبعدما اتفق الطرفان على منطقة عازلة بينهما منزوعة السلاح عمقها عشر كيلومترات على جانبي حدودهما يرأس فريق أممي من بعثة «يونيسفا» المنتشرة في أبيي حاليا مراقبتها،لكن الخرطوم تحفظت على خريطة اقترحها وسطاء الاتحاد الافريقي تحدد نقطة الصفر،ورفضت اعتبار منطقة الميل 14 ضمن حدود الجنوب،الأمر الذي عطل استكمال الاتفاق على الملف.
وطمأن وسطاء الاتحاد الافريقي السودان بأن الخريطة التي تحدد المنطقة العازلة مؤقتة،ولا صلة لها بترسيم الحدود بينهما،وان منطقة الميل 14 تظل منطقة نزاع بين الدولتين،لكن ذلك لم يبدد مخاوف الخرطوم باعتبار أن ما يؤثر على قضايا الحدود هو الموقف على الأرض لا الورق والوثائق.
وتزحزح وفد السودان أخيرا عن موقفه قليلا لتحريك جمود التفاوض وحتى لا يتهم بتعطيل العملية، وطرح أن تكون كل منطقة الميل 14 التي تبلغ مساحتها سبعة آلاف كيلومتر منزوعة السلاح وليس الشريط العازل فحسب، على أن لا يكون هناك وجود رسمي للدولتين،وأن تدار المنطقة عبر نظام الإدارة الأهلية لقبيلتي الرزيقات ودينكا ملوال اللتين ظلتا تتعايشان بسلام في المنطقة منذ مئات السنين، غير أن ذلك لم يقنع جوبا حتى الآن لأنها تريد ثمناً مقابلا لموافقتها في تقديم السودان تنازل في أبيي أو المناطق الخلافية الأخرى..
وفي شأن ترسيم الحدود بينهما اتفق الطرفان في وقت سابق على 80 في المئة من الحدود، وانحصر النزاع على خمس مناطق هي حفرة النحاس والميل 14،وكاكا التجارية والمقينص وجودة،وشكل الاتحاد الافريقي فريقا من الخبراء لتقديم ورقة لمعالجة الخلاف على المناطق المتنازع عليها بعد الاستماع الى مواقفهما والاطلاع على الوثائق التي تدعمها،لكن الورقة لن تكون ملزمة للطرفين ووغرضها الأساسي مساعدتهما على تجاوز الخلاف سياسياً، وفي حال فشلهما ستكون الخطوة الأخيرة هي إحالة النزاع إلى التحكيم الدولي.
وثمة نقاط أخرى مرتبطة بملف الحدود يمكن أن تعقد الموقف،فاللجنة الفنية المشتركة بشأن ترسيم الحدود حددت نقاط الخلاف في أربع مناطق هي حفرة النحاس وكاكا التجارية والمقينص وجودة ،ثم اضافت لها لجنة الفريق صلاح عبد الله «قوش» وباقان أموم منطقة الميل 14 التي طلب بها الجنوب،غير أن وثيقة الحدود تحدثت بجانب المناطق المتفق عليها والمختلف حولها، عن مناطق مدعاة،حيث ادعى الجنوب أن هناك مناطق أخرى تابعة له.
كما ظلت قضية النزاع على منطقة أبيي عصّية،وكان الاتفاق ينص على اجراء استفتاء لتحديد مسقبل المنطقة ،ويختلف الطرفان على من يحق له التصويت في الاستفتاء، فبينما يتمسك الجنوب بأن يكون حصريا على قبيلة دينكا نقوك،تطالب الخرطوم بإشراك قبيلة المسيرية باعتبارها صاحبة حق أصيل في المنطقة، واقترحت أميركا أن يكون حق التصويت لكل من أقام في المنطقة مائتي يوم متواصلة،وثمة مقترحات بتقسيم المنطقة بين السودان والجنوب وهو ما ترفضه جوبا حتى الآن،وسيكون ملف ابيي ابرز أجندة لقاء البشير وسلفاكير.
ولا يتوقع حسم ملف أبيي واقصى ما يمكن تحقيقه من تقدم هو الإتفاق على تشكيل المجلس التشريعي والادارة المؤقتة للمنطقة لملء الفراغ الإداري والسياسي وتقديم الخدمات لمواطني المنطقة.
ويواجه طرفا المحادثات ضغوطا من الوسطاء الذين حدد لهم مجلس الامن موعدا لطي ملف التفاوض ينتهي اليوم ،وكذلك من الدولة المضيفة إثيوبيا لحرصها على استمرار دورها الاقليمي عقب وفاة رئيس الوزراء مليس زيناوي، كما يرابط في مقر المفاوضات في أديس ابابا مبعوثو الولايات المتحدة وبريطانيا والنروج والاتحاد الاوروبي.
وقال سفير غربي يتابع المحادثات في أديس ابابا لـ «الصحافة» إنه حسب التجارب السابقة فإن أي اختراق في التفاوض كان يحدث في اللحظات الأخيرة،ورأى أن الخلافات بين الدولتين هي أقرب ما تكون الى مواقف سياسية من كونها خلافات موضوعية،معربا عن أمله في «نهاية سعيدة» تحمل الأمل لشعبي الدولتين.
وبانتهاء موعد جولة المحادثات الاخيرة بين دولتي السودان وجنوب السودان ،حسب قرار الاتحاد الافريقي ومجلس الامن تحت الرقم 2046،يكون مستقبل العملية أمام ثلاثة سيناريوهات:الاول توصل البشير وسلفاكير الى اتفاق في القضايا المتبقية خلال لقائهما اليوم،والثاني تمديد المهلة وعقد جولة محادثات جديدة،والأخير طرح الاتحاد الافريقي مقترحات وحلولا للملفات العالقة،يتبناها مجلس الأمن ويفرضها على الدولتين،ويفرض عقوبات على أي طرف يرفضها تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة.
ويرى مراقبون أن الخيار، أو السيناريو الأخير لا يبدو محبذاً للاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي،فإدارة الرئيس باراك أوباما تريد انجازا سياسيا في ملف دولتي السودان وجنوب السودان يخدمها في الانتخابات الرئاسية التي تجري في نوفمبر المقبل،كما أن مشروع البيان الرئاسي الأخير لمجلس الأمن بشأن المفاضات صيغ بلغة عنيفة تنتقد الخرطوم وتلوح بتحميلها المسؤولية وبالتالي تهديدها بعقوبات،لكنه تعطل أكثر من أسبوعين وجرى تعديله بصورة جوهرية ثم صدر بطريقة متوازنة.
يضاف إلى ذلك فإن كبير وسطاء الاتحاد الافريقي ثابو مبيكي الذي سينتهي تفويضه في نوفمبر المقبل، لا يريد أن توصم وساطته بالفشل ،ولذا فسيسعى الى موقف إيجابي يحقق له مكاسب،تقدمه لمهمات اقليمية ودولية أخرى،وكذا الاتحاد الافريقي الذي سيكون حريصاَ على استمرار ملف الوساطة في يده.
ملف جبال النوبة والنيل الأزرق
رغم وجود وفدي التفاوض من الحكومة برئاسة الدكتور كمال عبيد، و»الحركة الشعبية – قطاع الشمال» في أديس أبابا فإن جمودا يعتري العملية لسببين:الأول عدم حرص الوسطاء ومن ورائهم المبعوثين من الدول الكبرى وممثلي المجتمع الدولي على تحريك الملف قبل تسوية القضايا العالقة بين دولتي السودان وجنوب السودان، باعتبار الملفين مرتبطين.
وكذلك فإن وفدي التفاوض وضعا شروطا مسبقة قبل جلوسهما على الطاولة للمحادثات المباشرة،فوفد الحكومة طالب بفك الارتباط السياسي و العسكري بين الجنوب و»الحركة الشعبية – قطاع الشمال»،وفي المقابل يطالب وفد الحركة بتوقيع الطرفين على ورقة تمثل مرجعية للتفاوض تستند على قرار مجلس الامن 2046،الذي يشمل اتفاق نافع – عقار الموقع في يونيو 2011،وأيضا الإتفاق الإنساني المتصل بالاغاثة.
سيظل ملف المنطقتين رهينا بما تسفر عنه قمة البشير وسلفاكير ،وسيتأثر الملف بمستوى العلاقات بين الخرطوم وجوبا،ولكن في النهاية قناعة كليهما بأن الطريق نحو السلام ذو اتجاه واحد. [/JUSTIFY]
الصحافة