مع تزايد هموم العيش ومشقته صارالسرحان و(شغلانة القلب) من أوسع أمراض القلوب إنتشارا .. قد يعزيها البعض للخرف بنوعيه المبكر والطبيعي أو للزهايمر رغم أنه في إعتقادي لا يعدوا أن يكون أحيانا – مجرد إسم دلع للخرف بالتقادم.
وما يؤكد ظني معاناتي الشخصية من تبعات السرحان وعدم التركيز منذ صغري فكم تكرم علي الوالد بلقب (فاطنة جوجوّي)، وحسب تذكري من روايته عن فإن فاطنة ست الإسم إنها كانت (مرة غبيانة) بدرجة قف تأمل .. تنسى طبيخها على النارحتى يحترق وتسهو عن عجينها فتأكله الغنم وعندما تخرج لبعض شأنها مع أحد صغارها تعود من غيره وهي تسأل نفسها في حيرة: ياربي أنا كنتا شايلة شنو؟!
وعندما سارت بحكايا جوجوتها الركابان سموها (فاطنه جوجوي .. قلب السخلة) فبالإضافة لإنشغال قلبها الدائم كانت خفيفة القلب سريعة (الخلعة)، إذا ألقى الهواء بالطش على الأرض في جلبة، قفزت فزعا كفزع السخلات عندما يقترب منها غريب.
أسريت لصديقتي الحبيبة (إنتصار) عن تزايد معاناتي من النسيان .. حكيت لها قصة (عِقِدي) الذي إختفى بعد أن كانت أضعه في جواري لالبسه .. ظللت أبحث عنه حتى أصابني الدوار وتلفت لمساعدتي في إسترابة وحدثتني النفس اللوامة بأنها قد سرقته فسألتها:
أنتي سلسلي الكنتا خاتاهو جنبي قبل شوية ده .. ما شفتيهو مشى وين؟
ألقمتني حجرا بقولها:
ياتو؟؟ .. واحد تاني غير اللابساهو في رقبتك ده ؟؟!!!!
0 تعودت (مريم) كما نفعل جميعا عندما نقوم بتصفية المكرونة أو الشعيرية أن تضع المصفاة على حوض الغسيل ثم تسكب عليها محتويات الحلة حتى تتخلص من الماء الزايد ثم تعيدها إليها مرة أخرى .. لذلك عندما تنادت النسوة في الحي للحاق بإحدى الجارات للعزاء في وفاة والدتها .. حاولت (مريم) الإسراع في الإنتهاء من طبخها قبل الخروج معهن .. وضعت الأرز على إحدى عيون البوتاجاز ووضعت على الأخرى حلة الشوربة باللحمة ثم دخلت لتكمل لبسها للخروج .. عادت مسرعة لتحمير اللحمة بعد (تنشلا) وعمل القدحة للشوربة عندما صاحت فيها جارتها عبر الحائط تستعجلها في الخروج .. ضربتها (اللخمة) فوضعت المصفاة على الحوض دون أن تضع تحتها حلة أخرى وسكبت فيها الشوربة ثم (قلبت) اللحمة على الطوة لتحميرها .. وعندما همت بإعادة الشوربة للنار مرة أخرى إكتشفت أنها ذهبت مع رياح (اللخمة) للبالوعة!
0 تعودت (زينب) على إستغلال المساحة الزمنية الطويلة التي يحتاجها (توريق الملوخية) في إجترار الهموم والتفكر في حال الدنيا (أم قدود) وشئ من عدّ غنم إبليس .. فقد تعودت على (التوريق) أثناء سرحانها وإنشغال قلبها بكل تلك الهموم .. وفي ذات مرة كانت تقوم بوضع أوراق الملوخية على الجردل وترمي بالعروق إلى الأرض في آلية كعادتها .. وعندما إنتهت من توريق آخر (عِرِق) إنتبهت لتجد أن الهواء قد حمل أوراق الملوخية وغطى بها الحوش .. لتكتشف أنها إثناء سرحانها كانت تضع عروق الملوخية في الجردل وتلقي بالأوراق على الأرض!
ده الشغل .. ده الشغل!!
شدني بعنف وأخذ بتلابيبي ولوى عنقي مشهد النسوة العاملات في الزراعة أثناء عبورنا بالعربة وسط المزارع مع العيال وأبوهم في طريقنا لإستراحة أحد الأصدقاء ببحري .. رأينا مجموعة من النسوة اللاتي رغما عن شمس الصباح وسخونتها في الصيف، إلا أنهن تحزمن بثيابهن وحملن (الطواري) يضربن الأرض بهمة وقوة ساعد تعجب العين وتسر القلب، وتؤكد أن الحرة إذا حاصرها ضيق العيش، تفضل الأكل من عرق جبينها بالمعنى الحرفي للكلمة بدلا عن زل السؤال وهوى الشيطان .. غلبني تأثري بمكابدة النسوة للعنت في هذا العمل الشاق ولم يخرجني منه سوى رؤيتي في طريق عودتنا لمقطع من أغنية عبد الرحمن عبداللة مكتوبة على ظهر لوري:
بالصبر بنداوي الجراح .. كان يداويها الصبر
أخذتني الإنتباهة لعمق المعنى الكامن في البيت ولطفه .. ظللت (ألاهي بيها) – على قول أستاذنا سعد الدين – أسبوع تمام ولم يخرجني منها سوى(إندهاشتي) بروعة الكبكبة والإنبهال الإستسلامي في رائعة محمد ميرغني:
أها وكيف ناوي تعمل في قلوبنا وحنانة .. بعد ما جيت لقيتنا حافظين الأمانة
عندما تغنى بها الفنان في حفل حنة أحد الجيران .. فكيت مداواة الجراح بالصبر وشبكتا في القلوب وحنانة إلى حين ..