أرجع يا عبد الرحمن ما تخلي ابليس يلعب بي راسك .. وتخرب علي الحاجة دي صبرا .. يا دوب قدرت تمسك سبحتا وتلزم الاستغفار.
وقالت عجوز تحمل في ملامحها سيماء الوقار والتقوى:
هو البكا كان برجع ليك حبيب .. الله يعلم كان قضينا عمرنا كلو نبكي .. لكن يا وليدي حكم الله ونفذ .. ماشين نسوي شنو غير الصبر؟ ربنا يجعلا من أصحاب اليمين.
استرجع (عبد الرحمن) ومسح وجهه الذي غطته الدموع ثم رفع الحقيبة التي يحملها في يده ودفعها إلى نسيبته قائلا:
هاك يا حاجة الأمانة دي عايزك تحتفظي بيها عندك.
سألته مستفسرة:
أمانة شنو كمان يا ولدي الدايرني أمسكا ليك؟
قال موضحا:
ده دهب ساجدة يا حاجة أنا لميتو كلو وجبتو ليك .. زي ما إنتي عارفة، أنا كنتا مشتري ليها دهب كتير شديد وهسي بقى من نصيب بناتا .. عايزك تحتفظي بيهو ليهن لمان يكبروا ويتزوجن.
أمسكت بالشنطة منه واحتضنتها ثم انفجرت بالبكاء وشاركها (عبد الرحمن) وسط تأثر الجميع.
إنقضت أيام العزاء والتي قرر بعدها (عبد الرحمن) أن ينهي إغترابه ويبقى في السودان لرعاية أبنائه ومتابعة دراستهم، حيث عاد بهم للإستقرار في بيتهم بعد أن إستعان بسيدة متوسطة العمر، إستأجرها لتعينه في إدارة شئون المنزل وتسد جزء من الفراغ الذي خلفته (ساجدة) خلفها برحيلها.
مرت الأيام ثم الشهور على الوفاة وكان في مرورها خير بلسم لمداوات الجراح، فقد مضت سنة الحياة وشغلت شواغلها الجميع عن الأحزان إلا (أم ساجدة) لم يزدها مرور الأيام إلا حزنا فوق حزن ولكنها تشاغلت عنه حتى لا تشغل بال من حولها بأحزانها.
بعد ما يقارب الخمسة أشهر طرق عليها الباب (عبد الرحمن) والشمس آيلة إلى الغروب، رحبت به ودعته للجلوس معها في الحوش .. جلس مترددا فسألته بعد أن لاحظت اضطرابه من حركة يديه وأصابعه التي كان يفردها ثم يجمعها ويقوم بطقطقتها بالضغط عليها ببعضها البعض، قالت:
مالك يا عبد الرحمن يا ولدي ما على بعضك كدي .. ان شاء الله خير ؟ شغلتني .. نعل الأولاد ما عندهم عوجة؟؟
تلجلج لبرهه قبل أن يقول متلعثما:
أبدا والله مافي أي عوجة .. ثم بعد فترة صمت قصيرة استجمع شتات نفسه وقال بقوة:
ياآآآ حاجة الأمانة الكان مسكتك ليها .. قصدي دهب المرحومة ….
وبعد أن صمت مرة أخرى سألته محتارة:
مالو دهب المرحومة .. هداك جوه في الحفظ والصون يسمع في كلامك.
قال بسرعة:
داير أشيلو منك تاني .. أصلي دخلتا لي في مشروع بالقروش الرجعتا بيها، لكنها فرقت معاي شوية .. عشان كدي عايز الدهب أصرفوا وأسد بيهو الفرقة دي، وبعد ما أموري تظبط .. تاني بشتري غيرو للبنات وأديك تمسكيهو ليهن.
قالت الحاجة في سلامة نية ودون تردد:
طوالي تشيلو .. الدهب حقك .. إنت الجبتو وإنت البتعوضن ليهو .. ربنا يعينك في مشروعك ان شاء الله ويفتحا عليك شق أيش ما تقبل يا ولدي .. كدي النقوم أجيب ليك شنطة الدهب.
حال الرجال (خاتمة)
كان (عبد الرحمن) مثل (كل واحد ليهو في تاريخه ماضي فيهو قصة حب أليمة)، جمعته أيام الدراسة الجامعية قصة حب مع زميلته (حنان)، ولكن بسبب طبعه الكتوم لم يعرف بها غير القليل من خلصائه واصدقائه المقربين .. بعد التخرج تعاهد ومحبوبته على أن يتوجا قصة حبهما بالزواج، ووعدته (حنان) بالإنتظار على أحر من الجمر عندما إختار السفر للخارج، حتى يقصر المشوار ويعجل ببناء عش السعادة.
في عام إغترابه الاول (فتر) ساعي البريد من حمل رسائل الوجد المثقلة بالاشواق وحساب أيام الفراق على أصابع الانتظار، ولكن قبل أن ينصرم العام الثاني تناقص وارد الرسائل من طرف الحبيبة، وكثر تجاهلها الرد على رسائل (عبد الرحمن) الشفقانة وسؤاله الملح ( أيه الحصل؟ ومين غيرك؟)، حتى جاءه اليقين بعد الشك في شكل رسالة مقتضبة من (حنان)، تخبره فيها عن الظروف القاهرة نتيجة الضغط الشديد من أهلها، والتي أجبرتها على القبول بالزواج من إبن عمها حسب تقاليد الأسرة، وتدعو له في ختامها أن يوفقه الله إلى (بت الحلال) التي سوف تسعده.
إنطوى (عبد الرحمن) على نفسه يلعق جراح الغدر حينا من الزمان، ولكن في لحظة انتباة صعبت عليه نفسه، وقرر أن يترك الأحزان وراءه ويمضي للأمام كما فعلت هي، فما كان منه إلا أن خط خطابا لأمه وأخواته يخبرهم فيه عن عزمه على الزواج وطلب منهم ترشيح من يروها مناسبة له، فكان ان عوّضه الله عن غدر (حنان) بمودة وطيبة (ساجدة) التي كانت خير بلسم لجراح قلبه.
طوال سنين أغترابه وزواجه من (ساجدة) لم تتح له الفرصة لمقابلة (حنان) ولو بالصدفة، إثناء اجازاته التي كان يقضيها وأسرته في السودان، ولكن شاءت ارادة المولى تجمعهم في ظرف غريب .. ففي أثناء سعيه بين دواوين الحكومة لإكمال تصديقات مشروعه، الذي قرر أن ينشئه بعد وفاة (ساجدة) وعزمه على الاستقرار في البلد لرعاية أبنائه ومتابعة دراستهم .. فبعد طول وقوف في الصف جاء دوره ليقف أمام شباك التصاديق الهندسية .. رفع رأسه ليفاجأ بأن المهندس المسئول لم يكن سوى (حنان).
كانت الدهشة والإرتباك والتلعثم هي القاسم المشترك في هذا اللقاء بعد كل تلك السنوات، والذي انتهى بتبادل ارقام الهواتف ووعد من (عبد الرحمن) بالإتصال عند نهاية المعاملة واستلامه للتصديق .. غادر الشباك وقد هاجت به الذكريات وتداعت لخواطره ملابسات الشاكوش القديم، وفجأة انتبه لانه لم يرى عليها شئ من سمات المتزوجات من حناء وخلافه، وفي المساء إختلى بنفسه في غرفته .. تناول جهاز الموبايل وتمدد على السرير .
إشتعلت النار تحت الرماد لتحيي الحب القديم، وتكررت المحادثات التي حكى فيها كل منهما بالظروف والاحداث التي مرت به .. حكى لها عن زواجه من (ساجدة) وأبنائه السته منها ووفاتها الفاجعة، وحكت له عن شقائها من بعده بسبب إبن عمها الذي سامها العذاب، حتى سعت لتخليص نفسها منه بالطلاق، بعد أن الله قد رزقها منه بإبن وإبنة ضمتهم لحضانتها وغادرت عش الزوجية قبل بضعة سنوات ..
تجددت المشاعر وتطورت إلى لقاءات سرعان ما توجت بقرار جمع الشتيتين، تمخضت عنه الزيارة في تلك العصرية لبيت نسابته ليسترد من الحاجة (أم ساجدة) دهب المرحومة.
لم تستبعد والدة (ساجدة) تفكير صهرها في الزواج، ولكن أثقل قلبها الحزن شروعه فيه قبل إكتمال العام على وفاة زوجته .. ساءها ما سمعته من ناقلي الخبارات ووصفهم لما تكبده من تكاليف وبزخ في حفل الزفاف، و(الذهب) الذي قدمه شبكة لعروسه، بل وتركه لعياله مع مدبرة المنزل وسفرهم لقضاء شهر العسل في الخارج.
نعلت الحاجة (أم ساجدة) إبليس، وقررت أن تزور العرسان بعد عودتهم .. من ناحية حتى تزيل عن (عبد الرحمن) حرج التعامل معها بعد زواجه، فلا تحدث جفوة بينهم تؤدي لإبتعادها عن أحفادها، وحتى تطمئن على نفسيات الأبناء بعد زواج أبوهم وكيفية تعامل العروسة معهم.
جلست في الصالون بعد أن لاقاها أحفادها بالأحضان، ثم إندفع اصغرهم لينادي على زوجة أبيه كي تسلم على جدته .. غاص قلب الحاجة بين ضلوعها وأحست بتكور احشائها ألما عندما صافحت العروس .. فتعالت شخللة أساور المرحومة الذهبية الـ(ما بتغباها) .. عادت من زيارتها وقد أعمتها الدموع عن رؤية الطريق .. سارت تحدث خيال ابنتها المرحومة:
ما في بت مرة بتسد محل سمحة الخصال مستورة الحال .. لكن رضينا بحكم الله وياهو حال الرجال !!