مش أحسن لي أمشي أقعد مع أولادي هناك؟ بدل ما نقسم العيشة وأقسّم قلبي عليهم .. نصهم هنا ونصهم هناك.
داعبها (عبد الرحمن) مناكفا:
يعني وكت تمشي معاهم وتخليني براي قاعد عزابي بعد السنين دي كلها .. قلبك ما بتقسّم؟ وللا أنا خاتاني بره حسابات قلبك ده؟
ضحكت (ساجدة) في صفاء وقالت في ود:
إنت كمان الزيك منو؟ عارفني ما بخت في محلك زول .. لكن نعمل شنو كان ربنا راد لينا كده؟
هوّن عليها بينما كان يواسي نفسه:
كلها اربعة سنين على بال ما يتخرج محمد وارجع ليكم عشان نعيش مع بعضنا زي أول.
كانت (ساجدة) في صباها نوارة بنات الفريق .. لطفا وأدبا وجمال، فقد وصفتها العالمات بشئون السماحة من كبيرات الحي بـالقول: (رمش عينا بي مرة كاملة)، لذلك لم يكن مستغربا أن يخطفها عبد الرحمن (كف) .. جارهم المهندس المغترب الذي صبت إليه قلوب عذارى الحي وطمعت في نسبه أمهاتهن، ولكن كل ترشيحات أولات أمر الخطبة من أمهاته وأخواته أجمعت عليها من دون الباقيات، فكان ذلك الزواج الأسطوري الذي صار حديث الناس لحين من الزمان قبل ما يقارب العقدين من الزمان.
إنتقلت بعده (ساجدة) مع زوجها لمقر عمله، وعاشت معه تظللهما السعادة وراحة البال والمحبة التي روها طبع (ساجدة) الهدي ورضي، فنمت وترعرت بينهما لتظلل السنوات التي رزقهما الله فيها بالمال والبنون، فقد أهدته خلالها ثلاثة من الصبية ومثلهم من الصبيات، ليكمل عدد أبنائهم نصف الدسته، دون أن يترك أرهاق ونصب الإنجاب المتكرر على جمالها وقوامها إلا اليسير من الأثار المقدور عليها بالمعينات التي برع في اختراعها تجار الجمال والتجميل.
إستقر المقام بـ (ساجدة) وابناءها في بيتهم الذي سكبا فيه جهد سنين إغترابهم فصار آية من آيات الجمال المعماري، سارت مركب حياتهم في يسر وهناء لا يكدرها سوى شوقهم للأب الذي لم يعتادوا على فراقه، بعد أن انتظم الأبناء في دراستهم .. الصغار في المدارس والكبار في الجامعة.
رغم أن (ساجدة) اختارت البقاء وحيدة مع أبناءها، إلا أن أسرتها وأسرة زوجها لم يبخلوا عليهم بالرعاية والمتابعة، فكان أشقائها وأشقاء (عبد الرحمن) يتفانون في تلبية طلباتهم وقضاء كل الاحتياجات التي تمنع مشغوليات الدراسة إبنيها الشابين من الأيفاء بها.
شاءت الإرادة أن تضرب موجة عاتية مركب تلك الأسرة .. ففجأة ودون سابق إنزار أصابت (ساجدة) حمى غريبة حار الأطباء في تشخيصها ولم تمهلهم الأقدار لعلاجها، فقدت أسلمت روحها الطيبة لبارئها بعد أربعة أيام قضتها في المستشفى، قبل أن يتمكن (عبد الرحمن) من رؤيتها أو وداعها، فعلى باب المستشفى الذي سارع إليه بعد وصله من المطار مباشرة بعد سماعه لخبر مرضها المفاجئ، لاقته صرخات صغاره الذين إندفعوا إليه، وعويل شقيقات (ساجدة) الذي ردد صداه جنبات المصتوصف الهادئ الانيق.
بكى (عبد الرحمن) شريكة حياته كما لم يبك رجل على إمراة قط .. فما أن وصلوا بالجثمان إلى البيت حتى إنكب إلى الأرض يحثوا التراب ويهيله على رأسه ويشق قميصه حتى أسرع أشقاءه لحمله ليضعوه بين يدي والده الشيخ .. احتضن الأب إبنه المكلوم وضماه لصدره وهو يقول:
الله يبرد نارك يا ولدي ويعوض عليك بي عوض الخير ..
أجابه بين شهقاته:
مافي شئ في الدنيا حا يعوضني عن ساجدة يا أبوي!!