موهبة مرت من هنا

موهبة مرت من هنا
المهاجم أو الهداف في كرة القدم هو ذلكم اللاعب الذي يصيب المرمى، وهو في حقيقة الأمر من أهم اللاعبين في الملعب، لأن متعة كرة القدم تكمن في إحراز الأهداف، وهي التي ترفع درجة الإثارة بين اللاعبين والجماهير معا .

لكن الهدف يمكن أن يُحرز من قبل أي لاعب في الفريق، لكن التشكيل الأدائي يفترض أن يكون المهاجمين هم اكثر المؤهلين لإحراز الأهداف، وقد إشتهر كثيرون بمقدرتهم على صناعة هذه الأهداف أختار منهم أدناهم مني وأقربهم الى الذاكرة، وهو الأستاذ الخلوق (عزالدين محمد خير – الصبابي) والحقيقة قد يظن ظان أنني إجتبيته من بين الآخرين لمجرد صداقتي الشخصية له، أو لأنه زميلي بنادي الموردة.

لكن إختاري له يجيء من كونه أحد أفذاذ الكرة السودانية علاوة على حذاقته الأدائية المبهرة، الى جانب مايتمتع به من خلق قويم، وإمكانيات لامحدودة قي إصابة المرمى من أي زاوية وبأي وضعية يكون عليها وبأكثر من عضو في جسمه.. وقد تكون مزاملتي له من أوان بعيد بحكم الجوار هي إحدى أدواتي في سبرغور هذه الشخصية والحديث عنها بقدر من الإستفاضة والشمول.

والحقيقة أننا من حيّ واحد وشارع واحد وهذا يمكنني من التتبع الدقيق لكونه ظاهرة لن تتكرر في مضمار كرة القدم، ذلك أن عزالدين كان قد أحرز هدف الفوز للموردة في أول يوم لتسجيله وفي أول مبارة يؤديها مع الموردة ضد فريق النيل بإستاد الخرطوم.

والشاهد أن عزالدين لم يخيّب ظني فيه، حين طلبت من الأستاذ (جعفر ضرار) مدرب الموردة حينذاك أن يشركه رغم تسجيله في ذات اليوم، بل أكاد أجزم أننا أحرزنا أهدافنا في النيل بتكتيك ذاتي ظللنا نتفاهم عليه في تمارين الحي لنخطف به هدفين نلنا بهما نقاط المباراة بعد تأخرنا بهدف .

لكن السؤال العجيب يكمن حول كيف كان عزالدين يحرز الأهداف ؟؟ سؤال بسيط لكنه يحتاج مني الى ساعات لأشرح العلاقة التكنيكية بين القاضي وبلوغ الأهداف، فقد كان صديقي كالنحلة وهو بقوامه الفارع، حيث ظل يذكرني دوما بمحمد على كلاي وهو يتحرك في محوره لينتزع فرصتة للتصويب، وعهدي به يصوب كالجندي راقدا وجاريا وطائرا وساكنا.

وأكثر الذين جاهروا بأنهم كانوا يهابونه هو الأسطورة (حامد بريمة) لأن المهابة هنا ليست عيبا بل تحسّبٌ لقدرات فارسٍ نبيل، فإن جاءته بإستحياء في الميسرة كان يعالجها كأنها في الميمنة، وإن جاءته في أي جزء من جسمه كان يراقصها مطواعة لتجلس حيث يريدها أن تكون، وما أحلى أن تراه يراقصها مغازلة.

لكن أعجب مافيه أنه كان يلعب الكرة والإبتسامة لا تفارق شفتيه، وتشجيعه للزملاء شحذ لا ينقضي، بل هو رجل لا يعرف الإستسلام، بل كان أكثر اللاعبين إستوثاقا من قدراته على التغيير وإحراز الأهداف عبر الإختراقات والتصويبات.

أما حلوله الفردية من خلال المناورة والمحاورة فما أحلاها، وقد يعجب المرء حينما يراه بقامته الفارعة وخفته ورشاقته يمر من بين الخصوم كالنسمة تمويها تاره وترقيصا تارة وخداعا في تارات أخر، لكن أعجب أعاجيبه حينما يغاضبه خصم في الملعب فإنه كان يستدعيه نزالا بإسمه ليتجلي به إجلاسا وترقيصا وتحديا، فقد كان يجمع الخصوم ويطرحهم والكرة بين قدميه مطواعة.

ورغم إدراكي أن النجم البرازيلي (بيله) هو أقضل المهاجمين الذي مروا على ظهر البسيطة، لكنني أحمل قي قرارتي يقينا بأن الرجل عندي أنا لا يقل عن هذه الأسطورة إلا في الظروف، وكثيرا ما تشكل الظروف بحواشيها مسرحا قد لا يتكرر في مكان آخر، لكن قناعتي ويقيني أن أخي عزالدين لم يكن مجرد موهبة مرت من هنا، بل كان مدرسة محفوفة بقدر من التواضع الجم .

ويسرني أن أضع هذا الرجل بين العظماء – بيليه، مارادونا، سقراط ، يوهان كرويف ،ماركو فان باستن، لاديسلاو كوبالا، ريفالدو ،روبيرتو بادجو، جيانفرانكو زولا، رونالدو، غابرييل باتيستوتا، روماريو، جيرد مولر،راؤول غونزاليس،كريستيانو رونالدو.

كثيرون سيرون حديثي من منظار المبالغة، لكنهم ليسوا ملامين على ذلك، مثلما أنا غير ملام في يقيني، فلقد رأيتني مع الإبداع في مربع واحد وحي واحد وشارع واحد، ورايت الكرة وهي تتجاوب مع رجل يعرف كيف يستأنسها كإستئناسه بالسوابق القانونية التي إحتلت إهتمامه الآن بدلا عن الكرة، نشأ وترعرع بيننا نراه كل يوم وهو لا يجارى في هواه، وكأنها تميل اليه كميله لها، رغم أصابته المبكرة بحساسية الصدر.

لكنه الآن طلقها طلاقا بائنا وهذا مبعث حزني، ولم يعد يعتد بها ولا يستئنس بها، وكثيرا ما همس لي بأنه كم تمنى لو تنمحى من تاريخه، ليس جحودا لها ولكن لأن الصورة النمطية للاعب السابق تتمترس في حيزها، وتأبى أن ترى كينونته الآنية.

لكن حزني أن طلاقها قد حرم الكثيرين من الإستفادة من هذا الرجل الخلوق، الذي نحن الآن في أمس الحاجة إليه، وكثيرا ما أسأل نفسي عن القدوة بين المهاجمين، والحقيقة لا أجد إلا طفرات هنا وهناك وبِطلاقه هذا خسرت الكرة السودانية مبدعا كان يمكن أن يرسم منهاجا للوصول الى الأهداف ، خاصة في حالة العقم الهجومي الذي نعاني منه .

ترى هل شاهد عزالدين مهاجمينا الحاليين؟ وهل رأى كيف يهدر هؤلاء الأهداف السهلة أمام المرمى؟ ترى كيف السبيل الى هدافين قادرين على صناعة الأهداف؟ بل كيف السبيل الى أهداف مصنوعة لا تتأتي على مسارج الصدفة؟.
كثيرون يتصورون أن عزالدين كان يلعب ضد المريخ على نحو يختلف عن الهلال، وهذا تصور خاطيء لأن اللاعب الحاذق يحترم نفسه وموهبته، وما وقر في ظن الناس لا يخرج عن كونه فكرة أطرتها الظروف.
…………
ملء السنابل تنحني بتواضع … والفارغات رؤوسهن شوامخ

صلاح محمد عبدالدائم شكوكو
[email]shococo@hotmail.com[/email]

Exit mobile version