أطفال من زمن حاتم الطـــــــائي
نحيا في ضنك من العيش، وتشتد وطأة العطش علينا، ونجتهد بكل ما أوتينا من قوة لإرواء عطش أنفسنا وماشيتنا، ومهما أصابنا الضنك والإعياء فإننا كرماء مع الآخرين، ومهما كانت درجة قرابتك بنا وبغض النظر عن المكان الذي أتيت منه.. قريباً أو بعيداً ومهما كنت بشريا تمشي على اثنتين أو من ذوات الأظلاف.. سنعطيك مما جلبته أيدينا من ماء البئر.. لأنك روح حية.. وفينا روح تؤثر على نفسها ولو كان بها خصاصة.
يـــــوم فـــي حيــــاة دابــــة تبدأ رحلتنا مع أول أشعة شمس الصباح المشرقة، متوجهين الى مورد المياه..لا يهم كثيراً إن كان حفيراً او «دونكي» أو سداً صغيراً.. وحتى لو كان بئراً سطحياً، يهمنا الماء، وبعدما نحمل بالماء.. نبدأ الرحلة العكسية للرجوع الى ديارنا، فنمضي مطرقي الرأس وكأن على رؤوسنا الطير، وفي أرض بغير زرع مقفرة وجدباء نمضي والريح عن يميننا وشمالنا والشمس من فوقنا والرمضاء من تحتنا، ولا يحدث احدنا الآخر فالحمل ثقيل والمسافة بعيدة.. ونحفظ طريقنا عن ظهر قلب ولا نحتاج توجيها او خريطة طريق، فمنذ الازل دربنا محفوظ، ومهما كانت الطريقة التي نحمل بها الماء بجر عربة كارو او باقات محمولة على كل جانب، فإن لدى كل واحد منا زميل احتياطي ليحمل عنه الحمل الثقيل عند منتصف المسافة.. نعم نمضي في جماعات إلا أن كل واحد منا له همومه التي لا يشرك فيها الآخرين.. وبالرغم من أن رحلتنا تكون مرة واحدة في اليوم إلا أنها قطعة من الجحيم نتشاركها مع الصبية الزغب الصغار.. أما آن للرحلة ان تنتهي؟ اصدقكم القول.. كل يوم جديد أسوأ من سابقه.. والرحلة التي كانت بطول «15» كيلومتراً في العام الماضي صارت اليوم «20» كيلومتراً.
استبصار طفلة.. يحكي واقع حياة مؤلم
بعينيها البريئتين اللتين تلمعان بالأمل وبوجهها الصبوح، تقف ترتيل مشرئبة الى المستقبل، وترنو بناظريها الى غد مشرق بلا دموع، بيد أن ذلك الأمل قد لا يتحقق لفتاة ريفية في المستقبل القريب. وبالرغم من أن والديها يقدمان لها الرعاية والحماية، إلا أن الحياة في ريف تنعدم فيه الخدمات الصحية والتعليمية يظل كابوساً لاحلام أية فتاة ريفية، كثيرة هي العوائق والحواجز التي على ترتيل مواجهتها، بدءاً من الرحلة اليومية لجلب المياه الى الحواجز والحرمان الذي يواجه مسيرتها في الحياة، لن تحلم ترتيل ابدأ بالتعليم قبل المدرسي.. ابداً لا تتوافر للريف دور الرياض التي تشكل اولى معالم رؤية الطفل الى العالم، وحظها في الالتحاق بالتعليم الاساسي شبه مستحيل لأن أقرب مدرسة الى قريتها تبعد عشرات الكيلومترات، وحتى في حالة اجتيازها بعد مسافة المدرسة، فإنها بالتأكيد ستشعر بمسؤولية مساعدة أسرتها في الحصول على الماء، ومع فترات جفاف متكررة تضرب شمال كردفان وعجز السلطات المحلية عن إقامة الحفائر وصيانة ما تبقى من دوناكي.. فإن الوميض الإنساني اللامع في مقلتي ترتيل سيختفي من عينيها، وسيجعلها كالأرض اليباب الخالية من الماء، كما هو الواقع اليوم في ولاية شمال كردفان.
تجسدها محنة شيخ
طفولة محتجزة طيلة «60» عاماً
لكل قصة بداية ونهاية.. ونهاية قصة محنة سليمان ابو شقة تبدأ عندما أغلقت المدرسة الاولية بمنطقة ابو حديد ابوابها في منتصف 1947م قبل استقلال البلاد بعقد كامل، بسبب الشح الكبير في إمدادات المياه بالمنطقة، وكان من المفترض أن يصبح العم سليمان طبيباً نطاسياً ماهراً شأنه شأن جميع الأطباء من أبناء الريف الناجحين المتفوقين، إلا أن اغلاق المدرسة جعل من المحتم على العم سليمان أن يمضي عمره في رحلة يومية لجلب الماء لأسرته وبضع غنيمات يمتلكها. يقول عمدة ابو حديد احمد السماني ان منطقتهم بها «18» قرية تنعدم فيها المياه الجوفية او السطحية، مشيراً الى ان الطريقة الوحيدة للحصول على المياه بتجميع مياه الخريف عند أربعة حفائر، مبيناً أن تلك الحفائر تجف سريعاً قبل خمسة او ستة أشهر من انتهاء الخريف، بينما يؤكد رئيس لجنة تنمية ابو حديد ضو البيت صغيرون عبد الرحمن أن المدارس بالمنطقة أغلقت أبوابها منذ عام 1948م، مشيراً إلى أن العملية التعليمية جمدت بالمنطقة لشدة وطأة العطش.
وينتظر العم سليمان ساعات طويلة وحوله الباقات الخالية.. وهناك احدى النسوة التي سبقته وهى «تنشل» الماء من جب سحيق الغور.. وما بين تلك الساعات التي ينتظرها والواقع الملموس الذي يعيشه يظهر شريط حياته امام عينيه وتحدثه نفسه: إن بدايتي نهايتي، ونهايتي بدايتي.. ومصيري أن أمضي في رحلة يومية بحثاً عن الماء.. خيط رفيع يربط بين طفولتي وشيخوختي.. إنه مدرسة أولية أغلقت قبل أكثر من ستين عاماً.
تأملات طفلة
البعد عن المركز.. البعد عن الاهتمام
إلى ماذا تنظرين يا أمي؟ وما خطبك لا تسقين؟ اتنتظرين حتى يصدر الرعاع؟ دوماً أشعر بالأمان بوجودك، أجد عندك الرعاية والحماية، لم أدرك معنى الأمومة الا من خلال اهتمامك بي.. آه .. أيتها الأمومة الأبدية الكائنة في أم.. وفي أمي.. كم كنت أود أن أحمل عنك بعضاً مما تعانين، لكني لا أستطيع فجسدي ضعيف ويداي لا تقويان على إنزال الباقات عن السرج، ليتني أكبر سريعاً لأحمل همك، ليتني أغدو طبيبة تشفي أسقامك.. ليتني كنت صحافية شهيرة أكتب عن معاناتك.. ليتني كنت وزيرة تلطف بكل النسوة في الريف.. أعرف أن مطالبك صغيرة واهتماماتك بسيطة لا تتعدى شفخانة وبئراً قريبة، عرفت الآن إلى ماذا تنظرين.. إلى الغد المشرق الذي لن يأتي أبداً.
بالأرقام
تختلف ولاية شمال كردفان عن باقي الولايات في كون معظم سكانها يقيمون في المناطق الريفية، وتغلب عليهم سمات البداوة.. وهذه نظرة الى سكان الولاية ومناطق سكنهم.. والاطفال أعمارهم أقل من تسع سنوات حسب احصاءات السكان لعام 2008م.
أين يسكن الكردفانيون:
1942093: هم سكان الريف.
568296: سكان المناطق الحضرية.
378580: فقط هم من السكان الرحل.
2888969: هم مجموع سكان الولاية.
1044240: هن النسوة اللائي يسكن في الريف.
الاطفال:
687596: هم الأطفال في عمر أقل من تسع سنوات ويسكنون في الريف.
158772: هم أطفال الحضر في عمر أقل من تسع سنوات.
124248: هم أبناء الرحل في عمر أقل من تسع سنوات.
فرص النجاح المقيدة
اذهب الى المدرسة كل يوم عند قرع جرس الطابور.. اتلقى دروسي طيلة اليوم الدراسي، احرص على مراجعة الدروس قبيل رجوعي الى البيت.. ليست شطارة مني وانما لأن هناك واجباً منزلياً ينتظرني.. انه جلب الماء وسقاية الماشية، ودون تلك الغنيمات لن احصل على الوجبة الرئيسة التي تشد من أزري، ولن أتمكن من دفع رسوم الدراسة.. عند وصولي البيت اهرع الى امتطاء حماري برفقة أخي الصغير ليشتد سوقه ويقوى على مواجهة الواقع في المستقبل القريب، هل أنا حزين لواقع حياتنا؟ أبداً لست حزيناً لطريقة حياتنا.. كل ما يحزنني أنني سأنافس آخرين هيئت لهم ظروف تحصيل دراسي مميز وبمعاونة افضل المعلمين، وفوق كل ذلك لا يتحملون مسؤولية رعاية الآخرين كما نفعل نحن.
خواطـــــر بنـــــت ريفيــــــة
عندما افرح اجري اليه متهللة.. أخبره عما يفرحني ليشاركني فرحي.. وعندما احزن يطوي الارض بقدميه ويأتيني يخفف عني ما يعتريني.. عندما اتأرجح بين الامور وتتعدد الخيارات امامي واسقط في حيرتي ولا اعرف الى اين اسير، اجده مقدماً الحل.. فهو من خبرته يعرف الطريق ولديه الرأي السديد.. فهو معي في اغلب الأوقات، قد تقلقنا نفس الاشياء التي نفعلها يومياً.. جيئةً وذهاباً.. بيد ان همومنا مختلفة، ولكن لأننا صديقان فإن همنا واحد.. ما يهمه يهمني وما ينتابه ينتابني، ولأن الحياة في الريف وفي البيئات القاسية التي نعيش فيها تتطلب التعاون بيننا.. فإننا دوماً نحتاج لجهود بعضنا.. انه الصديق عند الضيق.. نعم إنه صديقي .. على الأقل هو من يحمل عني وطأة ثقل «باقات الماء».. يا من تعيشون في بيوت ثابتة وتحظون بإمدادات مياه مستقرة.. هل يوما جربتم السير لمسافات بعيدة وحدكم بحثاً عن «باقة» ماء؟.. ابدا لم تفعلوا ولن تفعلوا.. إذن اتركونا في شأننا.. فنحن من المهد إلى اللحد.. ملح الأرض.
سينما
من أجل أبنائي.. صرخة أمهات في زمن الصمت
مازالت ذاكرة السودانيين تتذكر فيلم «أمنا الهند» والذي اطلقت عليه الذاكرة الشعبية اسم «من أجل أبنائي»، وقد شاهده السودانيون مراراً وتكراراً، ويحكي الفيلم معاناة القرويين والبسطاء، ورغم مرور عدة عقود على إنتاج الفيلم مازالت كلمات اغنية الفيلم المسماة «اغنية الحصاد» التي تحكي عن معاناة الاطفال وأمهاتهم، تذكر بأوضاع ملايين الاطفال في ارياف العالم، فالى كلمات الاغنية :
لا ترحلوا عن أرضكم
إنها أمكم.. تدعوكم أن تعودوا
إلى أين تذهبون بعد رحيلكم عن قريتكم وجيرانكم؟
هذه أرض أمكم رغم ما لحقها من دمار.. لن تعرفوا السعادة إذا هجرتموها
انتظروا.. إن الأرض تدعوكم.. والسماء تنصحكم بالبقاء هنا
عودوا لتنجوا من عار الهاربين
لماذا تديرون ظهوركم لأرضكم؟
زالت أيام الضيق والعسر وجاءت السعادة تملأ حياتنا
تجمعت السحب تحمل رسائل الحب
أعزفي لحن الحب على مزمار قلبك
قلوبنا تردد الغناء العذب
لنرقص اليوم ونفرح.. لأننا لا نعرف ما يخبئه الغد
[/JUSTIFY]
الصحافة