سلام يا بروف
سوف احاول القاء الضوء حسب وجهة نظري في السبب وراء هذا التردي في المجال الطبي.
اقتباس:
قسم أبو قراط :
كان، أبو قراط (460-357 ق. م) الذي ولد في جزيرة قوص Cos، في بحر إيجا أشهر الأطباء وأهم ما اشتهر به القسم المعروف باسمه والذي يقسم به عادة كل من يزاولون مهنة الطب في احتفال رسمي يقام عقب نجاحهم في امتحاناتهم التأهيلية وقبولهم رسميا في مهنتهم الجديدة وعلى نحو ما ورد في صفحتي 63 و 64 من “مرجع آداب مهنية” الذي أصدره الاتحاد البريطاني للطب عام 1981 فإن نص القسم كالتالي :
(قسم.. على الوفاء بهذا اليمين حسب قدرتي وحكمي على الأشياء.. تبليغ ونشر المعارف الخاصة بهذه المهنة بإسداء المشورة وإلقاء المحاضرات وكل طريقة أخرى للتعليم إلى أولئك الذين ارتبطوا بقسم وفقا لقانون الطب ولكن ليس لأحد غيرهم. وسوف أتبع نظام التغذية الذي أعتقده وفقا لقدرتي ومدى حكمي على الأشياء ذا منفعة لمرضاي وأمتنع عن كل شيء ضار أو مؤذ لهم ولن أعطي دواء مميتا لأي شخص إذا طلب مني ذلك ولن أشير أيضا بمثل هذه المشورة.. وسأحفظ نفسي في معيشتي وفي ممارسة مهنتي على الطهارة وعفة النفس.. وأينما حللت توخيت منفعة المريض وسأمتنع عن أي فعل إرادي يستهدف الأذى أو الفساد. وأي شيء أراه أو أسمعه في حياة الناس مما له صلة بممارسة مهنتي أو لا صلة له بها فلن أتحدث عنه في الخارج ولن أبوح به على اعتبار أن جميع ذلك يجب أن يبقى سرا . ومادمت حافظا لهذا القسم غير حانث به فليكتب لي التمتع بالحياة وممارسة مهنتي وكسب تبجيل جميع الناس وفي كل الأزمنة أما إذا انتهكت أو حنثت فليكن العكس هو جزائي).
اخي البروفيسر ..
دعني ابدأ من التاريخ و سبب تسابق اولادنا نحو كليات الطب،،،
أتشرف ان ابدا بمقتطف من مقالة للدكتور الطيب عبد الله علية الرحمة إن شاء الله في المجمع الثقافي بابو ظبي عن اللغة العربية و المعاصرة.
اقتباس:
(في الزمان الماضي كان يعطي التلاميذ الذين يراد منهم ان يعدوا اساتذة مرتبات تعينهم في انفسهم و تعين اهلهم و لكن لان الاعداد كبيرة الآن لعل هذا لايستطاع او لان الاهل استغنوا من ان يعينهم ابنائهم فصار كل الابناء و البنات عندما يرسلون الي المدارس يريدون ان يتخرجوا من كلية الطب، لأن الاستعمار اعطي الطب منزلة عالية في اوائل تفكير المستعمرين في ترقية الشعوب التي كانوا يحكمونها. في السودان اعطي خريج كلية الطب حق ان يشتري ويسكي صودا و اعطي منزلة اجتماعية. هذه المنزلة الاجتماعية لم تفارق الطبيب منذ ذلك الزمان الي هذا الزمان و شاركه القضائي الي حد ما فهذه الأوضاع الطبقية التي جاء بها الحكم الاجنبي رسخت في مجتمعنا فصار التعليم سباقا نحو كليات الطب و بعض الكليات المهنية).
في اوائل الثمانينيات اتيحت لي فرصة زيارة البلاد الاشتراكية (رومانيا و بولندا و المجر و غيرهما). رأيت مجموعة كبيرة من الطلبة السودانيين الذين يدرسون الطب، استغربت جدا عندما رأيتهم يلهون و يسهرون و يلعبون. و سبب استغرابي اني اعرف ان طالب الطب ليس لديه وقت لكل هذا، بل حتي لاقل من هذا. عرفت فيما بعد بعد ان طال مكوثي معهم السبب في ذلك، فقد كانوا من مبعوثي حزب “مايو” و لاكون دقيقا فهم من شباب مايو و شباب الاتحاد الاشتراكي، و حتي اكون اكثر دقة وجدت الكثير منهم من قبضايات (فتوات) مايو و أمن النظام. و كان معظمهم من راسبي المدارس و لم يشفع لهم إلا انهم من عناصر النظام حتي يتم ابتعاثهم لدراسة الطب.
هؤلاء كلهم كانوا يدرسو الطب و الصيدلة، و رغم صغر سني في ذلك الوقت فقد بدأت “اتغوغوش” و أهِمْ لمستقبل السودان. أحسست ان هؤلاء سوف يقومون في المستقبل بعلاجي و علاج اولادي و اهلي .. و اصابني الخوف… خاصة بسبب اعدادهم الكبيرة.
اصابني الخوف بسبب ما رأيت من استهتار هؤلاء بالدراسة و اصابني الرعب من رؤيتي لهم وهم ينجحون. كان من السهل في ذلك الوقت في البلاد الاشتراكية و تحت الحكم السوفيتي الاشتراكي أن ترشو لتحصل على ما تريد فقد كان الجميع تحت فقر مدقع، و هذا ما كان يحدث. يكفي ان تعطي القليل من المال للبروفسير لنجاحك (و هذا لعمري افضل مما يحدث الآن .. فانت تستطيع شراء شهادة دكتوراه من ماليزيا و اختصار مدة الاربعة سنين في سنة و نصف و في بعض الحالات (المستعجلة) اقل، حتي اصبح الكل يحمل شهادة دكتوراه في السودان، و اقول افضل لانه في البلاد الاشتراكية كان لابد من ان تمكث مدة الدراسة كلها).
أثناء احد زياراتي للسودان بعد حوالي عشر سنوات وجدت، و الله على ما اقول شهيد، احد هؤلاء القبضايات رئيس مستشفي في السودان! أيضا تم ابتعاث الكثير من المنتمين للحزب الشيوعي للدول الاشتراكية و درس الكثير منهم الطب. و اعرف منهم شخصيا طلاب تخرجوا من الثانوي العالي القسم الأدبي (ممتحنين ادبي) و كانت نتيجتهم نجاح بنسبة ضعيفة جدا في اوائل الخمسين (50% – 55%). تخرج هؤلاء اطباء من بلغاريا و روسيا و رمانيا و اكرانيا و باقي الدول الاشتراكية. هؤلاء الآن اطباء بيننا يعالجون اهلنا و اولادنا. قال لي احدهم مستطردا في شبه دفاع عنهم (و لكنهم الآن أخصائيين كبار بعضهم في السودان و البعض الآخر في الدول العربية و قد تعلموا) …. فقلت له و انا اتنهد بحرقة: و لكن كم شخص قتلوا؟و كم اسرة يتّموا؟ لكي يصلوا لهذه المرحلة؟.
مصداقا لهذا رفضت الدول العربية من قبل كل خريجي الدول الاشتراكية من التقديم لوظائف الاطباء عندها لوقت طويل و ذلك تقديرا منهم لما ذكرته من قبل من ضعف في المستوي و تزييف في الشهادات سواء كان هذا التزييف مباشرا ام غير مباشر. و اعني بالتزييف الغير مباشر للشهادات عملية الرشوة و الغش التي تمارس في هذه الدول لكي ينجح الطالب من غير مجهود و لا عطاء و لا حتي حضور محاضرات او معامل و لكنه في النهاية يدرس 5 او 6 سنين و ينجح و يتخرج و ينال شهادة طبيب. سمعت حديثا أن الدول العربية اعتمدت شهادات هؤلاء و سمحت لهم بالتقديم اخيرا لوظائف أطباء عندها. و اندهشت لهذا التحرك، لأنه كما أتضح لي لم يتم أعتماد شهادات الخريجيين الحديثيين و لو حدث ذلك لقلت لعل أنظمة الحكم الجديدة التي جاءت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي قد غيرت من هذه الطرق الفاسدة و أصلحت انظمة الجامعات و جوّدت من مناهجها و أمتحاناتها و اجتثت الفساد من اروقة مؤسساتها العليا. و لكن الدول العربية اعتمدت هذه الشهادات بأثر رجعي! مما جعلني استغرب اشد الاستغراب فهذه هي نفس الشهادات التي تم رفضها من قبل .. و لم أجد إجابة لتساؤلاتي …. و قلت في نفسي لعل الدول العربية قد أيقنت أن هؤلاء الاطباء قد تعلموا و اصبحوا من الاطباء الجيدين الآن بعد ان عاثوا في الشعب السوداني تقتيلا و تقطيعا سنينا عددا فتعلموا بالخبرة الطويلة الأمد.
إذا اردتم كشف بعض هذا الفساد فلتراجعوا شهادة الثانوية العليا للأطباء و ستجدون العجب. و حديثا و قبل أن أتم مقالي هذا حدثت لي حادثة توضح عمق المشكلة و انتشارها دوليا، ذهبت الي وزارة الخارجية لتوثيق شهادة الماجستير التي احملها و هي صادرة من أحدي جامعات أوربا الغربية. نسبة لقدم التوقيع لم يجد مسئولي التوثيق مرجع لتوقيع السفارة السودانية فطالبوني بابراز شهادة البكالريوس !!! فتعجبت ايما اعجاب .. و تسائلت و ما علاقة شهادة البكالريوس بتوثيق شهادة الماجستير .. و لم يطل استعجابي طويلا فبعد يومين من هذا اخبرني احد المطلعين في وزارة الخارجية أن بعض الدول العربية وجدت أن كثير من الأطباء الذين يعملون في الخليج من خريجي الثانوية العليا – المساق الأدبي (مصداقا لقولي اعلاه)، و لذلك طالبت هذه الدول و بالخصوص السعودية (إلي درجة حضور ممثلين لهم الي السودان) بأن يتم التوثق و التأكد من ان خريجي الجامعات الأوربية ذوي الأختصاصات العلمية يحملون شهادات جامعية او ثانوية من ذات الأختصاص… و عندها عرفت لماذا طالبوني بشهادتي السابقة للماجستير.
ثم عاصرت رجوع هؤلاء الاطباء الي السودان و رأيتهم كاطباء امتياز و كنت كثيرا ما ازورهم في مستشفي الخرطوم فقد كان بعضهم من معارفي. لا اريد ان احكي لكم عن جهلهم بكل شييء و لكن اقول لكم أنهم كانوا يتندرون فيما بينهم بجهلهم بينما يشفع لهم النظام (نظام نميري) في الاستمرار و التقدم في المجال الطبي و صار الكثير منهم من الاطباء و عمل بعضهم كرؤساء لمستشفيات كما اسلفت وعندها تحققت مخاوفي التي طافت بذهني سابقا، و اصبحت المخاوف و الاطياف حقيقة و واقعا، ولكني قلت في نفسي سوف يقوم خريجوا جامعة الخرطوم التي كان معترفا بها حتي ذلك الوقت من جامعات بريطانيا بالتغطية على هؤلاء الاطباء و تعليمهم و اكسابهم من مهاراتهم.
اما الآخرون الذين لم يكونوا من منتسبي الاتحاد الاشتراكي فقد كان اكثرهم تحت اغراء الفساد الاكاديمي و النجاح السهل و الرشوة و المغريات الحياتية .. ففسدوا مثل اخوانهم .. و ما رحم ربي إلا قليلا. لقد كان معظم خريجي الدول الاشتراكية من طلاب الطب كارثة على الطب و الانسان في السودان.
و جاءت الانقاذ …..ونواصل ..
مدخل للخروج:
ولا ندري لأي جزيرة نزحف.. لأي حقولنا نسعى لأى سحابة نألف.. ولم تشدو حمائمنا نشيدا ساطعا أشرف.. سوى خنق الهوى فينا .. وقتل الحس بالإنسان ننحره بأيدينا .. فلن يفديك يا وطني من لا يفقه الدرس.. ولن يحميك من داء طبيب يفقد الحس.. فيا حزني على وطني.. وياحزني على جيل بلا رب ولا وثن.. و ياحزني على أهلي.. على من حطم الاحساس عند مداخل الأمل..
معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com