مال البنوك «بعلِّم» الأطفال السرقة
مهلاً، لا تستعجلوا وهاكم القصة «التراجيدوكوميدية» بالتفصيل.. الموظف الصغير «ط» 22 عامًا ــ والذي كان يعمل بقسم المقاصة بالبنك المذكور ظهرت عليه ملامح الثراء الفاحش والسريع، وأصبح أصغر «ملياردير» ومن لا شيء، خلال ثلاث سنوات فقط، هي عمر خدمته في البنك، وبحكم «صغر سنه» لم يحسن التصرف والتعامل مع المال، ولم يتقن فنون إخفائه بذات القدرة الشيطانية الفائقة التي خدع بها مدير البنك وجيش الرقاية وكتائب المراجعة، فطفق وبحكم «صبيانيته» يهدي السيارات لأصدقائه، والمبالغ الضخمة، وأصبح بحسب الروايات المتعددة يحل أعتى المشكلات المستعصية، التي يحتاج حلها للمال، ويخترق جدار الأزمات المالية للأصدقاء والأقرباء بمعاول من «حُر ماله»، وبذلك ذاع صيته وملأت شهرته، وكرمه الحاتمي أركان الحي، الذي يقطنه، فأصبح وقتها ذلك الصبي أشهر من صلاح إدريس، وأضحت سيرته تسير بها الركبان، وحديث المجالس الخرطومية في ذلك الحي.. تخيلوا معي أن هذا الشاب لولا جرأته الزائدة في إظهار هذا المال، والإسراف في الهدايا، فمنذا الذي كان سيكشفه، وكم من أمثال هذا الـ «ط» الذي هرب بالأموال واستثمر بعيدًا، ولم يكشفه أحد.
كشف لغز الجريمة
بعد أن ملأت شهرته الآفاق، وكانت تصرفاته، وهداياه الثمينة لافتة لكل الأنظار، وعلى خلفية وضعه السابق الذي يتوسد الفقر ويلتحف الفاقة، كان طبيعيًا أن يتحرك أفراد من رجال الأمن، بعد الإيعازات من هنا وهناك صوب «الود» الظاهرة لاستجلاء أمره اللغز والوقوف على حقيقة الثراء المجنون الذي أصاب شابًا لم يتجاوز عمره الثلاثة والعشرين ربيعًا حينما عمل «عملته» وترك البنك الوديع.. مارس رجال الأمن الضغط على الشاب كي يقر بمصدر هذا المال الضخم، فهل الأمر نتيجة لعملية غسيل أموال؟ أم نهب مباشر من البنك الذي كان يعمل به، ومن وراءه ؟.. وتحت وطأة الضغوط الأمنية، طلب الشاب «المفتح» الذهاب به إلى نياية مكافحة الثراء ليقر بكل شيء أمام النيابة بالفعل، جيء به إلى هناك، وطلب من النيابة التحلل من مبلغ «7» مليارات استولى عليها من بنك «…» حينما كان يعمل بالمقاصة، لاحظوا أنه اعترف بمبلغ «7» مليارات فقط والله وحده أعلم بما أخفى، المهم الشاب أقر بذلك المبلغ وقال للنيابة إنه يريد أن يتحلل من المال الحرام، ومعلوم أنه في قانون التحلل من المال العام المسروق، أن القانون يطلب منك إرجاع المال الذي سرقته، دون ملاحقة جنائية أو أي محاكمة أوأي مسؤولية أخرى، هكذا أراد الشاب «ط» أن يستغل هذا التساهل في قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، الذي يبدو في هذه الفقرة كأنه يحملك حملاً على الاعتقاد بأن فكرة «التحلل» صُمِّمت لتشجيع ناهبي المال العام للإقبال على مثل هذه الجرائم، فإذا كُشف أمر المجرم الحرامي، وأصبح في ورطة لامناص منها أبدًا ذهب وتحلل عن طريق الاعتراف ببعض المبلغ، وإذا لم يكشف أمره زادت استثماراته، وتضخمت ثروته، وتمددت شركاته هنا وفي كوالالامبور وأندونيسيا وغيرها..
تزوير بالمليارات
المهم أن الشاب «ط» اعترف بالمبلغ المشار إليه، وقال أمام المستشار «ع، أ» ورجال الأمن إنه استغل عُطلاً في الحاسوب ــ ولم يقل أنا الذي عطلته وبذلك تمكن من كتابة المقاصات بالشكل الذي أخفى به جريمته تمامًا، فمثلاً مقاصة بمليار واحد، تظهر في جهاز الحاسوب نتيجة للعطل بمليارين بدلاً من مليار واحد، فيحرر الشيك بـ «2» فيسحب أحد المليارين لصالحه، هكذا أقر الموظف «ط» ومثّل جريمته.. في العام 2003 طلبت النيابة حضور مدير البنك المعني وأحد الموظفين الكبار بالبنك، ولما مثل أمام النيابة، سأله رجال النياية عما إذا كانوا يفقدون أي مبلغ من مال البنك، فكان الرد بالنفي: لا طبعًا، كل الأمور تمام التمام وعلى ما يرام؟.. نعم كل شيء عال العال..!!!… ثم واجهتهما النياية بالحقيقة المُرة التي بدا المدير وصاحبه لايطيقان سماعها، ووسط دهشتهما بدأ «ط» يشرح لهما كيف استولى على هذا المال السائب من مصرفهما: يوم كذا، كانت المقاصة كذا، وظهرت في الحاسوب كذا، وأخذت كذا، ويوم كذا، حدث كذا… هذا نموذج فقط حدث في أحد البنوك الحكومية العريقة، وما كانت إدارة البنك تدري شيئًا مما أُخذ منها، لولا مظاهر الثراء الفاحش التي ظهرت على ذلك الموظف اليافع الذي كان موظفًا صغيرًا فقيرًا وما كان لأحد أن يعرف شيئًا من «فعلته» لولا هداياه اللافتة للنظر لأصدقائه ونحوهم، وهي الخيط الذي قاد إلى كشف الجريمة بواسطة رجال الأمن، فما الذي يجعلنا نصدقه بأنه سرق «7» مليارات فقط، وكيف نصدق حرامي أصلاً.. ولِمَ لم يكن قد سرق «20» مليارًا واعترف فقط بـالـ«7»؟!!
تقاطعات الولاء وفقه السترة
ونروي هذه القصة المؤلمة المضحكة أعلاه، بمناسبة، قرار الحكومة القاضي برفع الدعم عن المحروقات، وهوالقرار الذي أثبت كثيرٌ من الخبراء الاقتصاديين عدم جدواه باعتبار أن هذه الخطوة تضيف للموازنة مبلغ مليار جنيه فقط، ولا تسد العجز مطلقًا، وأن الفقراء هم الذين يكتوون بهذه الإجراءات عديمة الجدوي.. مراقبون سياسيون وخبراء اقتصاديون مازالوا يتساءلون: ماذا يعني «مليار» عائد قرار رفع الدعم عن المحروقات بجانب جرائم الفساد وسرقة المال العام التي تظهر فقط في تقارير المراجع العام والتي تفوق عشرة أضعاف عائد القرارالمشار اليه، وأضعاف حجم العجز نفسه؟، كم «مخزومي» سرق المليارات فأخذ الولاء بيده وأنقذه من المحاسبة والفضيحة، وكم أفرد «فقه السترة» جناحيه وحال دون معرفة لصوص المال العام، فلو أن الدولة أحكمت سيطرتها على المال العام وشدَّدت الرقابة ولم تتساهل مع المفسدين وناهبي المال العام عن طريق التحلل ونحوه، لَمَا بلغ الفساد هذا الشأو، وأصبح علة الاقتصاد الأولى، وسبب أزماته الكارثية، ولو أن الدولة ضغطت على لصوص المال العام، لما وجدت نفسها مضطرة للضغط على المواطن.
الفساد والترضيات
الخبير الاقتصادي محمد نوري وكيل وزارة المالية السابق ووزير المالية السابق بالولاية الشمالية، يلخص أزمة الاقتصاد السوداني «فشل الإدارة الإقتصادية» إلى جانب الفساد، فيما يرى آخرون أن الفساد، والترضيات السياسية، عن طريق خلق مناصب جديدة واستحداث مواقع للترضيات والموازنات القبلية والجهوية، أفرزت واقعًا مريرًا أدى إلى المزيد من الضغط على الموارد، بذلك زاد حجم الإنفاق الحكومي، ويُجمع الخبراء والمختصون على أن قرار رفع الدعم عن المحروقات، سيؤدي إلى المزيد من الإنفاق الحكومي باعتبار أن الدولة أكبر مستهلك للوقود، وهذا يعني في رأي أولئك الخبراء عدم جدوى القرار الذي تقول الحكومة إنها اتخذته لسد العجز في الموازنة، وتخفيف الضغط على الجنيه.
لماذا أصرت الحكومة على القرار؟
والسؤال المطروح أعلاه، هو السؤال الجوهري الذي يبدو على لسان كل مواطن سوداني سيكتوي بنار هذا القرار، خاصة بعد أن تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن القرار يزيد الفقراء بؤسًا وسيتأذى منه البسطاء دون غيرهم… الشيخ المك الخبير الاقتصادي المعروف، يرى أن الحكومة تسرعت في اتخاذ هذا القرار بالرغم من عدم جدواه الاقتصادية فقط لأنه أسهل الحلول وأيسرها على الإطلاق، ويوافقه في ذلك الدكتور محمد الناير، غير أن هناك أسبابًا يمكن الإشارة إليها ولو عرضًا، وهي أسباب جوهرية في رأي كثير من المراقبين، وهي أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في البلاد بدا منقسمًا على نفسه إزاء هذه المعالجات، فالذي يبدو أن وزير المالية نجح في إقناع واستمالة القيادة، ولذلك انتصر في خاتمة المطاف على المعارضين لهذه الخطوة من الذين عارضوها سواء مباشرة مثل عباس الخضر وبقية أعضاء الكتلة البرلمانية لنواب الوطني الرافضين، والمعارضون بشكل غير مباشر مثل الدكتور غازي صلاح الدين..المهم أن هذا الانقسام على مايبدو أوجد صراعًا خفيًا جعل الطرف المسنود بالقيادة السياسية، أكثر إصرارًا على الخطوة وتتسارع خطاه في هذا الاتجاه..ثمة أمر آخر وهو أن المعالجات والخيارات الأخرى قد تتطلب حل الحكومة الحالية وتشكيل حكومة أزمة يتم الاستغناء فيها عن أعداد كبيرة من الدستوريين والوزراء، ومخصصاتهم وكذلك سيفقد الباقون كثيرًا من الامتيازات، والحوافز والمخصصات، ولا شك أن هذه المعالجة سيكون معارضوها من النافذين وهم قطعًا أمضى وأقوى من الشعب، وهؤلاء وإن تماشوا مع الدعوة إلى هيكلة الحكومة، فإنهم لن يتماشوا مع حلها بالكامل وتشكيل حكومة أزمة من «15» وزيرًا كما هو مطروح.
عودة إلى اللص الخطير
إذن نعود إلى الموظف اليافع الذي «جهجه» البنك العريق وإدارته وفرق الرقابة والمراجعة واخترق نظام التأمين، ونقول لو أن واحدًا فقط من الذين في مقامه، ومن العباقرة الذين في مستوى تفكيره وأشباهه، لو أنه تفضل مشكورًا وجاء إلى نياية مكافحة الثراء الحرام في هذه الأيام قبل إعلان القرار بشكله النهائي واعترف بأنه سرق مبلغ «5» أو «6» مليارات جنيه على قدر المبلغ الذي يسد لنا عجز الموازنة، ويريد أن يرجع هذا المبلغ إلى الخزينة وفقًا لقانون «التحلل» من المال الحرام، و«ينوم» بباقي المليارات الأخرى، لو أنه فعل كما فعل ذلك الموظف الصغير، لكفانا شر هذا القرار الكارثة ولاستحق منا الثناء والتقدير، وسيكون ذلك جميلاً لن ننساه له أبدًا، لأنه أنقذ البلاد والعباد من هذه الورطة…
بارقة أمل
جاء في الأخبار أن برلمانيين أعلنوا تصديهم لقرار رفع الدعم عن المحروقات ووعدوا بإسقاطه ووقوفهم ضده، مؤكدين أن غالبية النواب ضد القرار، في هذه الأثناء طرح البرلمانيون جملة بدائل أكدوا أنها ستفي بعجز الموازنة من بينها تخفيض مخصصات الدستوريين وإيقاف كل مشروعات التنمية وإيقاف التجنيب الذي تقوم به وزارات كثيرة. وقالوا: إذا طبقت الحكومة القرار سيقودها لحافة الهاوية، وأكدوا أن البرلمان إذا مرر هذه الميزانية سيفقد مصداقيته أمام الشعب الذي انتخبه.
الخرطوم:أحمد يوسف التاي
صحيفة الإنتباهة