المرحلة الإعدادية في الصحافة

[ALIGN=CENTER]المرحلة الإعدادية في الصحافة[/ALIGN] لم أمارس العمل الصحفي وفق الأصول المتعارف عليها إلا في مؤسسة الاتحاد للصحافة في أبو ظبي، وصحيح انني عملت في صحيفة اليوم السعودية والراية القطرية ومجلة الدوحة، بصفة “متعاون” ولكن عملي ذاك كان في معظمه ترجمة لمواد كتبها آخرون، وفي إمارات نيوز ومن بعدها شقيقتها العربية “الاتحاد”، تعلمت أبجديات التحرير الصحفي ومقتضيات إخراج الصفحات، مع ما يتطلبه ذلك من توزيع وتنويع العناوين وتحديد مساحات محسوبة لها، وكان من حسن حظي أن بدأت العمل الصحفي الحقيقي في جريدة إنجليزية، لأن كل شيء في الصحف الانجليزية يحسب بـ “الميللي”، النص لا ينبغي ان يتجاوز حدا معلوما من الكلمات، والعناوين، تلك معضلة كبرى، فكبير المحررين يطلب منك مثلا أن تحرر كل خبر، ليشغل – مثلا – عمودين أو أربعة، ويحدد لك عدد نقاط (بوينتس) عنوان كل منها، فإذا أعطاك 28 نقطة مثلا، فإن كل حرف في العنوان يمثل نقطة، والفراغ الفاصل بين كل كلمة وأخرى يمثل نقطة، وبالتالي عليك ان تحك رأسك جيدا كي تأتي بعنوان مكثف وحابل بالمعاني، في حدود تلك النقاط.. وكان معنا في الصحيفة مخرج سوداني لا يفقه من الانجليزية شيئا، وفي ذلك الزمان كان هناك “الماكيت” التقليدي، ويتم رسم كل صفحة في ورقة سميكة وعلى المخرج ان يقص الأخبار ويلصقها على الورقة في شكلها الذي ستذهب به الى المطبعة، وبالتالي فقد كان صاحبنا يقص و”يلزق”، مواد لا يعرف شيئا عن محتواها، ويوما ما جاء خبر ما طويلا بعض الشيء، فتلفت فلم يجد أحدا من المحررين حوله، لأنهم سلموا المواد وتوجهوا الى بيوتهم، فاستخدم المقص وبتر كذا كلمة أو سطر، بحيث “يزبط” الخبر في المساحة المخصصة له ويكون بذلك قد بتره وجعله عديم المعنى.
وذات يوم تلقى صاحبنا الهندي سوبرامانيان أيير خبر وفاة أمه، وجلس بيننا حزينا، ومن أعجب الأمور ان التعزية بالانجليزية تتم بعبارة في منتهى السخف،.. يقول لك من تحادثه ان أباه توفي وكل ما هو مطلوب منك هو أن تقول: آي آم سوري.. تصافح شخصا فقد زوجته وتقول له: آي آم سوري.. أنا آسف؟ آسف على ماذا؟ هل أنت الذي تسببت في الوفاة حتى تعتذر بعبارة آي آم سوري،.. عندما تكون التعزية بالإنجليزية كتابة فهناك هامش لكلمات قليلة ذات معنى، ولكن هنا أيضا لابد ان تقول إنك “سوري”! المهم ان صاحبنا الجاهل بالإنجليزية توجه الى الهندي أيير وقال له بالحرف الواحد: يور مذر داي، ماي مذر داي،.. يو مي سيم سيم.. أمك ماتت، وأمي أيضا ماتت، وأنا وأنت نفس الحالة و(مفيش حد أحسن من حد).. الشق الأول من الترجمة حرفي ودقيق، ولكن الترجمة الأمينة تقتضي أن تعكس روح النص، وما قاله صاحبنا لزميله الهندي يعني في جوهره (وإن لم يكن يقصد ذلك): أمي أيضا توفيت، وأمك مش أحسن من أمي، فما تعمل لي فيها حزين.. يو مي سيم سيم .. الحال من بعضه، وحكى لي صاحبنا هذا كيف أنه ذات مرة أوصل إلى قاضٍ سوداني في أبوظبي طردا من أهله في السودان، وكيف انه ونفرا من أصدقائه التقوا بالقاضي فألح عليهم أن يتناولوا الغداء معه في بيته،.. وهناك وجدوا نفرا من أصدقاء القاضي يخوضون في مواضيع شتى، وتخلل الحديث الكثير من المفردات الإنجليزية.. لنتركه يكمل سرد ما حدث: نظر إلي أصدقائي بتوسل لأسهم في النقاش باعتبار أنني بلبل في الإنجليزية، بحكم أنني أعمل في صحيفة إنجليزية، فصرت كلما قال أحد الحضور كلاما بالانجليزية، لا أفهمه أعقب بكلمة: أبسلوتلي.. وكررت الكلمة عدة مرات مع كذا متحدث، فمال علي أقرب الحضور إليَّ، وقال بصوت حاسم: اسكت.. اسكت يا زول.. بلاش هبل.. وغمزت لأصدقائي وتسللنا خارجين زاعمين أننا سنعود بعد نحو ربع ساعة.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version