بداية موسم الاغتراب الطويل

[ALIGN=CENTER]بداية موسم الاغتراب الطويل [/ALIGN] أمامي دعوة من رابطة الصيادلة السودانيين في قطر للمشاركة في ندوة حول “الاغتراب الى متى وأين”، يوم 10 ديسمبر 2010، وجاءتني الدعوة بوصفي مغتربا محترفا، لأنني قضيت حتى الآن 31 سنة خارج السودان، معظمها في منطقة الخليج، وأسأل الله ان يمد في أيامي وأن يلهم أهل القطر الصبر عليّ حتى أشهد منافسات كأس العالم التي تستضيفها قطر في عام 2022، ومازلت أكاد لا أصدق أنني عشت كل تلك السنوات خارج السودان، لأنني سوداني متطرف، وأحب كل ما هو سوداني، ولم أكن أتخيل أنني سأتحمل العيش خارج السودان، لأكثر من بضعة أشهر، وقد ذكرت في مقال سابق كيف أنني والمجموعة التي كانت معي في لندن في أواخر السبعينيات لدراسة انتاج وإعداد البرامج التلفزيونية رفضنا تأجيل عودتنا الى السودان لأيام معدودة لحضور حفل التخريج، فقد ضقنا بلندن بسبب الحنين الجارف للوطن.
ولكن وبعد الزواج بأشهر ستة، ظهرت أعراض الحمل على زوجتي، فانقسم عقلي الى شطرين الشمالي منهما يقول: خليك راجل وتحمل المسؤولية ودبِّر أمورك وأمور الطفل المرتقب زيك وزي بقية خلق الله حولك، والشطر اليميني يقول: بلاش هبل وكلام عاطفي.. الحمل يعني زيارات متكررة لعيادات أمراض النساء والولادة، والانجاب يعني البامبرز والتطعيم والحليب الاصطناعي وهجر أطباء أمراض النساء والولادة الى أطباء الأطفال لعلاج السعال والإسهال.. وفي أول زيارة للطبيب طلب من زوجتي إجراء فحوصات اتضح ان كلفتها ستون جنيها!! وات؟ ستون جنيها؟ سيكستي باوندس؟ نو بروبليم.. ابيع الثلاجة والسرير والساعة؟ ولكن ذلك نوع من “الطلاق”! المهم أنني وعند هذه النقطة فكرت في الهجرة، لأن الحكاية لن تتوقف عند طفل واحد، ولحسن حظي كان مكتب الأمم المتحدة في الخرطوم قد أعلن عن حاجة المنظمة الدولية لمترجمين، وكنت واثقا من انني سأفوز بواحدة من تلك الوظائف، لأنه سبق لي التقدم لها خلال عملي مترجما في السفارة البريطانية في الخرطوم، ونجحت في الاختبارات التحريرية بتفوق، ولكنني امتنعت عن الانترفيو، لأن راتبي في السفارة كان ضخما ولأن فكرة العيش في مكان مثل نيويورك تفصله عن السودان آلاف الكيلومترات كانت تصيبني بقشعريرة.
وذهبت إلى مكتب الأمم المتحدة وتسلمت أوراق التقديم لوظائف المترجمين، وتوجهت الى مكتب التعاونيات في محافظة الخرطوم حيث صديقي شيخ ادريس مدني، الذي كان يبعد أمتارا قليلة عن مكتب المنظمة الدولية لملء الأوراق، وفجأة قاطعني صديقي: بالمناسبة شركة أرامكو فتحت مكتب توظيف في العمارة الملاصقة لنا فلماذا لا تقدم أوراقك لديها أيضا؟ وفرغت من تعبئة أوراق الأمم المتحدة وحملتها معي الى مكتب أرامكو، وقابلت هناك مدير المكتب: السيد حسن خضر وسألني عن الوظيفة التي أرغب في التقديم لها فقلت له: مدرس لغة إنجليزية أو مترجم أو مخرج تلفزيوني، فقال لي إن هناك حاجة ماسة لمترجمين، وسألني عن الموعد الذي يناسبني للجلوس للامتحان فقلت له: هسع (ومعظم السودانيين لا يعرفون ان الكلمة اختصار لعبارة “ها الساعة”)، فابتسم وقال إنني بحاجة الى وقت للاستعداد للامتحان فكان ردي أنه ما من كائن يستطيع ان “يذاكر” لامتحان ترجمة.. وفرغت من الامتحان في خلال ساعة ونصف الساعة، فأبلغني حسن خضر أن هناك امتحانا آخر يجب أن أجلس له في يوم آخر، فقلت له: ولماذا لا أجلس له “هسع”؟.. وبعد تردد اقتنع بمنطقي فجلست للامتحان الثاني والأخير، وعندها كان مكتب الأمم المتحدة قد أغلق أبوابه فحملت أوراق الترشح لوظيفة مترجم دولي الى البيت ونسيت أمرها.. وبعد اسبوع بالضبط تلقيت اتصالا من مكتب أرامكو: نجحت في الامتحان وهات جواز سفرك كي تسافر في أقرب وقت ممكن، وهكذا خرجت من السودان ولم أعد حتى الآن إلا كزائر عابر.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version