ما سنورده من وسائل وأساليب ليس على سبيل الحصر وإنَّما للتمثيل فقط، والأمر إنَّما يقوم على الوسائل أو الأساليب نفسها.
إنَّ الأمر هنا يقوم على تأصيلٍ واضح، وهو أنَّ كل وسيلةٍ أو أسلوبٍ من أساليب القتال يؤدِّي إلى تجاوز آثار القتال إلى غير المشاركين في القتال، فإنَّ هذه الوسيلة أو الأسلوب تكون غير مشروعة. ويدخل مع غير المشاركين في القتال ــ تبعاً ــ ممتلكاتهم وأموالهم، فلا تكون بمعزلٍ عن الحماية التي يستحقونها.
وأمَّا الحالات الاستثنائية فإنَّها حالات ضرورة لا يد للمقاتلين فيها، ولكنَّها تُقدَّر بقدرها، فلا تُستدام لتصبح هي القاعدة والأصل.. ولا يُتوسَّع كذلك فيها حتى يختل الأمر كله.
وحتى حالات المعاملة بالمثل فهي منضبطة في الإسلام، فلا تكون هي الخيار الأوحد، بل هي مباحة، ويمكن للمقاتلين وقادتهم عدم اللجوء إليها إن كانت المصلحة تقتضي ذلك وكانت مفسدة المعاملة بالمثل أكبر من مفسدة مقابلة الإساءة بالإحسان. فالأمر تقديري بحسب الظروف والأصلح في كل حال. كما أنَّ المعاملة بالمثل محكومة بمبادئ وأخلاق رفيعة، مثل الفضيلة والتقوى، فلا يُرد بما فيه إبادة أو تعذيب أو انتهاك أعراض أو قتل للنِّساء والأطفال، أو ما شابهها من الأساليب.
والتأصيل يقتضي إدخال كل ما استجدَّ من وسائل وأساليب مستحدثة في القتال ولا حاجة للنص على كل واحدة بعينها، بل القياس يُدخلها إذا توافرت العلَّة.
المتأمِّل في تشريعات الإسلام في القتال يجد أنَّه منع مجموعة من الأساليب، وذلك لمنافاتها للمبادئ والقيم التي شُرع القتال من أجل حمايتها وترسيخها.
إنَّ هذه الأساليب الممنوعة عديدة، ونذكر أهمها:
الاستهتار أو اللامبالاة:
وذلك بالانطلاق في أعمال القتال تجاه البشر والممتلكات بدون قيود، وبدون التفريق بين المشاركين في القتال وغيرهم، أو بين الأهداف العسكرية وغيرها. وهذا ممنوع بنص الآية القرآنية التي تمثِّل مرتكزاً ومحوراً لأساليب القتال ووسائله، وهي التي تربط هدف الأعمال القتالية بالمشاركين في القتال وما يلحق بهم. يقول سبحانه وتعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)[ سورة البقرة: 190]، حيث جعل عِلَّة المقاتلة هي المشاركة في القتال، وحكم على مقاتلة غير المشاركين في القتال بأنَّها عدوان، وقرر أنَّه لا يحب المعتدين.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل من لا يُقاتل، كالنساء والأطفال والشيوخ وكبار السِّن والعُبَّاد المنقطعين للعبادة والعُمَّال، كما نهى عن قتل العاجز عن القتال كالجريح أو المريض. وورد النهي كذلك عن الإتلاف لغير حاجة أو غرض مشروع.
وبناءً عليه اتفق الفقهاء على منع القصد إلى قتل غير المقاتلين، ومنع قطع الأشجار والزروع أو قتل الحيوان لغير حاجة.
الغدر:
إنَّه من الأساليب الخسيسة الممقوتة سِلماً وحرباً فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الوفاء، ويبغض إليهم الغدر، حيث عدَّ الغدر من علامات النِّفاق. وكان يوصي من يبعثهم في سراياه بقوله: ((ولا تغدروا)).
وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيداً حين وجَّهه إلى الشام بذلك. وكذا أوصى عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه جارية بن قدامة قائلاً: «واقتلوا العدوّ مقبلاً، ورُدُّوهُ بغيظِهِ صاغراً».
التنكيل:
وذلك بتعذيب المقاتلين الأحياء، أو بالتمثيل بجثث القتلى. فكل ذلك ممنوع، وذلك استناداً لما أوردناه من استصحاب الرحمة أثناء القتال، فهذا توجيهٌ إسلامي، كما نُهي عن التعذيب بالنَّار. ويُقاس عليه كل فعلٍ أو أسلوب فيه تعذيب.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله المشركون بعمِّه حمزة في أُحُد فأقسَمَ بالله قائلاً: ((لئن ظفرتُ بقريشٍ لأمثِّلنَّ بسبعين منهم))، فنزل قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) [سورة النحل: 16]، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي الأمراء بقوله: ((ولا تمثِّلوا)) ، وفعل مثله خلفاؤه من بعده، فأوصى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، وأوصى عليٌّ جنده بصفين قائلاً: «ولا تمثِّلوا بقتيل».
الفساد الأخلاقي:
وقد أوضحنا ونحن نتحدَّث عن المبادئ العامة التي يستند إليها الإسلام في إقرار الوسائل والأساليب في القتال أنَّ مبدأ الفضيلة مع التقوى تجب مراعاته. وأنَّ ذلك يقتضي منع الرذيلة وكل القبائح، فلا انتهاك للأعراض ولا إساءة أو بذاءة، حتى لو فعل العدوّ ذلك. فالمعاملة مقيَّدة بالفضيلة في الإسلام كما سبق أن ذكرنا.
التطهير العرقي:
وهذا مصطلح حادث يُراد به الحروب العنصرية التي تُشنُّ من أجل القضاء على جنسٍ ما أو قوميةٍ بذاتها.
وهو أمرٌ ممنوع في الإسلام الذي شرع العدل ومنع الظلم، وجعل النَّاس سواسية، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلاَّ بالتقوى. ونهى عن التفاخر أو التنابز بالألقاب أو السخرية لأنَّ الخيرية الحقيقية هي بحسب منزلة العباد من الله بناءً على تقواهم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [سورة الحجرات: 13]. فكل أسلوب يؤدي إلى هذا الغرض ممنوع شرعاً، ويشبه هذا النوع من الأساليب أسلوباً آخر عُرف حديثاً بحروب الإبادة الجماعية، وهي كذلك تنطلق من منطلقات لا أخلاقية، حيث إنَّ الغايات والأهداف فاسدة، ولذا فالأسلوب لا ينفصل عن الأهداف، حيث ينطلق المقاتلون في عمليات القتل بلا تمييز بين مقاتل وغير مقاتل. بل إنَّ الأمر هنا فيه قصد لقتل غير المقاتلين.
وقد شهدت البشرية قديماً وحديثاً حروباً من هذا النوع تجلَّت فيها بشاعة الإنسان تجاه أخيه الإنسان، ولم يكن ذلك غريباً ــ مع قسوته وقبحه ــ لأنَّ الإنسان لا يعصمه إلاَّ دينٌ حق، يحق العدل ويأمر به وينهى عن الظلم وإراقة الدِّماء بغير حق، قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) [سورة الأنعام: 151. وسورة الإسراء: 33].
ومما يساعد في تنفيذ هذا النوع من الحروب استخدام أنواع فتَّاكة من السلاح الذي يمتد تأثيره إلى مساحات كبيرة ومجموعات هائلة من البشر لا صلة لهم بالحرب. ومما يسهم في وقوع مثل هذه العمليات كذلك واستشرائها، استخدام مقاتلين لا أخلاق ولا مبادئ لهم. ولذا كان من المهم معالجة أساس المشكلة وليس التعامل السطحي معها فقط، أي بالعقوبات والمحاكمات، بل المطلوب العودة إلى الدِّين والتربية على الأسس الإيمانية..
صحيفة الانتباهة
أد. إسماعيل حنفي
عميد كلية الشريعة سابقاً بجامعة إفريقيا العالمية