[ALIGN=CENTER]جين دُران في السودان [/ALIGN]
عدت من بريطانيا بعد قضاء عام دراسي واحد في معهد الوسائط الإعلامية، ودخلت في دوامة مراسيم الزواج، وكما قلت من قبل فإن سعيدة الحظ كانت إحدى طالباتي عندما كنت مدرسا بالمرحلة الثانوية، وبالزواج انعكست الأوضاع فصارت الطالبة هي “المعلم الكبير”، وصار “الأستاذ” طالبا يتقاضى مصروف الجيب اليومي من المعلم “حنفي”، وقبل الزواج بفترة قصيرة طبّت علينا جين دُران، التي كانت “مساعد مدرس” في ذلك المعهد، وكانت قد أبدت حماسا شديدا لزيارة السودان، فقد استقبل المعهد قبلنا دفعات من المتدربين السودانيين من مختلف التخصصات الأكاديمية والمهنية، وكانوا كما كانت مجموعتنا محل احترام شديد من قبل هيئة التدريس بسبب انضباطنا واهتمامنا بدروسنا، وربما لأننا جميعا كنا نجيد الإنجليزية بعكس المبتعثين من العديد من الدول الأخرى، ففي ذلك الزمان – وهو ليس ببعيد أو سحيق – لم تكن الترجمة “توكل عيش في السودان”، بل لم يكن عدد محترفي الترجمة في عموم البلاد وحتى نهاية السبعينيات يزيد على العشرين معظمهم في السفارات الأجنبية وبعضهم في البرلمان لمساعدة نواب جنوب السودان الذين لا يتقنون العربية في فهم المداولات والمساهمة فيها، فقد كان جميع الموظفين وعلى جميع المستويات يتولون ترجمة نصوص المراسلات والوثائق التي تمر بهم بأنفسهم، ولم يحدث قط أن شاهد الناس على شاشة التلفزيون وزيرا أو أي مسؤول سياسي رفيع يجلس مع زائر أجنبي ناطق بالإنجليزية والمترجم يتوسطهما (سندويتش).. وقبل نحو سنة ظللت أتابع مع جهة رسمية في الخرطوم، تخليص مواد أساسية تبرعت لنا بها جهات في قطر، وفي كل مرة يقولون ان المستندات لم تصل فأعدت إرسالها بالفاكس نحو عشر مرات، ولكن تلك المواد بقيت مهملة وتم “إتلافها”!!! ثم اتضح ان كل ما في الأمر هو أن المستند (استمارة الشحن)، كانت بالإنجليزية، وكلما تسلمها الموظف المختص نظر الى الطلاسم المكتوبة عليها و”قرر” أنها وصلتهم عن طريق الخطأ، لأنه لم يحدث أن تسلم نصا مكتوبا بلغة أجنبية، فأعدم جانبا منها واحتفظ بنحو ثلاث نسخ في ملف “المهملات”.
المهم وصلت جين دران إلى السودان، وكانت كما ذكرت في مقال سابق من هذه السلسلة “ثورية” تناصر قضايا التحرر الوطني في كل القارات، وتضمر كرها شديدا للسياسات الأمريكية الخارجية،.. وكانت مجموعتنا التي تتألف من خمسة أشخاص قد وضعت جدولا لزيارتها بحيث تتم استضافتها في بيوتنا سواء داخل العاصمة أو خارجها، ولحسن حظها تزامن وصولها مع زواج زميلنا مختار عثمان في شمبات، وهي ضاحية للخرطوم بحري ولكنها ذات شخصية خاصة وعادات خاصة، واحتفت نساء شمبات بجين ونقشن يديها وقدميها بالحِنّة، ورقصت معهن وقضت عدة أيام في أجواء احتفالية، كانت خلالها في منتهى السعادة.. ثم جاء دور إقامتها معي، وكنت وقتها أستأجر بيتا في حي “الشعبية” في الخرطوم بحري وتقيم معي أمي وإحدى شقيقاتي، وتوسط مائدة العشاء صحن ضخم من الفول، ولما لاحظت جين حماس الجميع في تناول الفول جارتهم، وما لبثت أن أهملت بقية أنواع الأطعمة وظلت تأكل الفول وكأنه “آخر زادها في الدنيا”، وهي تغمغم بين الحين والآخر: مممم ديليشاس.. وتحاكينا في قضم البصل والجرجير مع كل لقمة فول وتصيح: لم أذق طعاما بهذه الحلاوة طوال حياتي.. أمك طباخة ماهرة.. وبعد الفراغ من الأكل سألتني إن كان ممكنا ان تحصل من أمي على وصفة طبخ الفول فأحضرت ورقة وكتبت عليها: انقعي حب الفول في الماء ل8 ساعات، ثم تخلصي من الماء القديم واغلي الفول في ماء جديد لنحو ساعة و.. خلاص.. بعدها تغرفي منه كميتك وتضعي عليه الملح والزيت.. حسبتني أهذر في بادئ الأمر ولكن ما أن أبلغها الجميع أن الفول لا يحتاج إلى “طبخ”، حتى اقتنعت وسألتني إن كنت أعرف مكان الحصول على الفول في لندن فقلت لها إنه متوفر في اسطبلات الخيل، وعندما غادرت السودان كانت جين دران تحمل معها 8 كيلوجرامات من الفول، وقلت لها إنها كمية تكفيها وتكفي اللي خلفوها خمس سنوات.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com