تعنت حكومي
تصريحات وزير الدفاع ارتكزت بشكل أساسي على الحديث عن تفصيل النقاط الخلافية بين الدولتين، ولم يعد خافياً على أحد أن القضايا الأمنية هي التي تمثل حجر العثرة في طريق كافة الجولات التي عقدت بين الطرفين خلال الفترات السابقة سواء التي عقدت في الخرطوم أو في أديس أبابا عبر رعاية اللجنة السامية للاتحاد الإفريقي، وربما العودة المفاجئة للوفد الحكومي الذي يترأسه وزير الدفاع تضاف إلى المفاجآت التي درجت مباحثات أديس أبابا على مباغتة العامة بها. ففي الوقت الذي تتحدث فيه الخرطوم عن اتفاق وشيك بين الدولتين على إنهاء التوتر الأمني ووقف إطلاق النار، عاد وزير الدفاع ليعلن عن فشل الجولة الحالية بسبب تعنت وفد حكومة الجنوب، وربما قطع الوفد للمباحثات ومطالبته بمهلة تمتد لعشرة أيام بغرض العودة للخرطوم ومناقشة القضايا التي تم طرحها من خلال اللجنة والتي تحمل صبغة سياسية، يطرح تساؤلات عدة تتعلق بمدى حساسية القضايا التي تحفظ عليها الوفد السوداني، وقبلها وفد الجنوب منذ الوهلة الأولى، ولماذا عاد الوفد للخرطوم؟
مصداقية ورسائل
لعل البعض سيتوجه مباشرة لتفكيك عبارات وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين وربما الاستشهاد بها في مراحل لاحقة واعتبارها اعترافاً ضمنياً يتعلق بالإجابة على اتهامات صدرت عن جوبا في مواجهة الخرطوم في فترات سابقة وظلت تبحث لها عن أدلة وشواهد تدعمها، حيث أقرّ وزير الدفاع بوجود مجموعات مناوئة هنا وهناك، وربما يقول التفسير الآخر عند النظر إليه من زاوية أخرى إن وزير الدفاع ربما يكون قد قصد إرسال رسائل سياسية وأمنية للعديد من الجهات داخل عمق دولة الجنوب، بأن الأوراق التي تمتلكها عسكرياً (الحركات المتمردة) للضغط بها على الخرطوم نمتلك مثلها، وأنه بإمكان الحكومة السودانية تفعيلها، بما يضر بالواقع الأمني المضطرب داخل الجنوب.
وعند طرح التساؤلات على الخبراء، قال الخبير في الشؤون العسكرية والتخطيط الاستراتيجي عثمان بليلة إن تصريحات وزير الدفاع ومطالبته لدولة الجنوب بالاعتراف بوجود حركات مناوئة هنا وهناك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحمل اعترافاً ضمنياً بوجود حركات جنوبية متمردة ومناوئة داخل أراضي السودان، وتعمل على معارضة نظام الحكم في دولة الجنوب، واعتبر بليلة أن موقف وزير الدفاع السوداني الذي دفعه لعدم التوقيع يعبر عن إحساس كبير بالمسؤولية ويرى بليلة أن ذلك الموقف فيه تروٍ كبير في عملية اتخاذ القرار بغرض إعطاء فرصة أكبر للتشاور مع القيادة السياسية حتى يخرج على درجة متقدمة من الشورى، ويمضي بليلة في حديثه لـ(السوداني) إلى القول أن حديث الفريق عبدالرحيم ينبغي أن يفهم في سياق ضرورة أن ترفع حكومة الجنوب الدعم المادي عن الفصائل السودانية المسلحة، وأن تقوم بجمع أسلحتها بخاصة الفرقتين التاسعة والعاشرة اللتين قال إنهما تتبعان للجيش الشعبي بجنوب السودان الذي يزودهما بالرواتب والعتاد، ويسير بليلة في ذات الدرب الذي بدأه وزير الدفاع حيث قال إن إنكار المفاوضين الجنوبيين لحقيقة دعم الحركات المتمردة على الخرطوم يجافي المصداقية.
تعبئة رأي
وزير الدفاع قبل وصوله الخرطوم وصلت الدعوات إلى الصحف ووكالات الأنباء بتحديد موعد حضوره بغرض تزويدها بالمعلومات المتعلقة بآخر مسار المباحثات، وربما يقول البعض إن أكبر وأهم الأسباب التي أدت إلى إجهاض الكثير من الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في وقت سابق تعود إلى التعتيم الإعلامي وعدم تبصير الرأي العام بالمعلومات الصحيحة، ومنح الفرصة والمجال لمناهضي تلك الاتفاقات لتعبئة الرأي العام ومن ثم تأتي الحكومة في موقف المدافع عن تلك الاتفاقات، في موقف يسميه أهل الرياضة، إن خير وسيلة للدفاع الهجوم.
وزير الدفاع تحدث صراحة عن الأسباب التي قادته لعدم التوقيع على اتفاقيات عسكرية مع دولة الجنوب بسبب جملة ملاحظات قال إنها لم تكن واضحة في الورقة التي دفعت بها الوساطة الإفريقية في محادثات أديس أبابا الأخيرة والتي اختتمت أمس الأول بطلب من الحكومة السودانية بغرض العودة للخرطوم والتشاور مع القيادة السياسية، ولم يخفِ وزير الدفاع خلال تصريحاته النقاط التي دفعته لعدم التوقيع حيث أجملها في قضية الحدود التي قال إنها لم تكن واضحة بما يكفي حيث يرى ضرورة أن يتم ترسيم حدود 1956م، بحسبما هو معروف ومعمول به حالياً إلى حين الاتفاق على المناطق المختلف حولها، واعتبرها قضية مهمة لم تكن واضحة في الورقة، وربما تمسك وزير الدفاع بحسم قضية الحدود لكونها تمثل المعبر الأساسي للحركات المتمردة التي تنطلق من داخل أراضي دولة جنوب السودان، ويبدو في اتجاه آخر أن جوبا تبحث عن أدلة إثبات لضبط شواهد تؤكد دعم الخرطوم لحركات متمردة عليها.
نزاع حدودي
بالعودة إلى قضية الحدود بين البلدين فإنها كانت ضمن القضايا السياسية التي آلت مناقشاتها طيلة الفترة الماضية لوفد الحكومة المفاوض حيث برزت قضية الحدود قبل انفصال الجنوب في التاسع من يوليو الماضي وتم الاتفاق على ترسيم (80%) من تلك الحدود فيما ظلت النقاط الخلافية الخمسة باقية في مكانها إلى أن أحدثت الوساطة الإفريقية اختراقاً فيها بحمل الطرفين على قبول المقترحات الجديدة التي تضمنت التزامهما بما تم الاتفاق حوله قبل الانفصال بجانب الاتفاق على البدء الفوري في ترسيم تلك الحدود وهو ما وصفه عضو الوفد الحكومي المفاوض محمد المختار بالاختراق الكبير. وكشف في تصريحات سابقة عن اتفاق على ترسيم أكثر من (75%) من الحدود على أن تبدأ اللجان المختصة عملها بعد ثلاثة أشهر من تاريخ توقيع الاتفاق الإطاري الأخير وأشار المختار إلى أن بداية الترسيم ستنطلق من المنطقة الثلاثية التي تقع على حدود السودان ودولة جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى فيما رشحت أنباء من أديس أبابا تقول إن الوساطة الإفريقية بصدد إعداد تصور جديد للمناطق الحدودية محل الخلاف وبرز اتجاهان للحل أولهما أن يقوم كل بلد بسحب قواته لمسافة عشرة كيلو مترات بغرض أن تكون المناطق الخلافية منزوعة السلاح يتم الاتفاق على إدارتها عبر قوة إفريقية أو غيرها بما يمكن الطرفين الاتفاق عليها أما الاتجاه الثاني الذي برز ضمن بلورة الحلول الإفريقية بقبول الدولتين بإنشاء قوة عسكرية مشتركة على قرار تجربة السودان مع بعض البلدان المجاورة.
تفسير عسكري
ومما سبق ربما يقود ذلك للقول أن قضية الحدود بين البلدين قضية ذات طبيعة سياسية يمكن تعزيزها بإجراءات أمنية وعسكرية تسهل من عملية انسياب المصالح المشتركة والمتداخلة بين الشعبين، أما النقطة الثانية الأكثر أهمية التي أوردها وزير الدفاع والتي يمكن وصفها بأنها مدخلاً جوهرياً لضمان عدم تجدد إطلاق النار واستدامة الأمن على حدود السودان وجنوبه هي تلك التي تتعلق برهن حلحلة كافة القضايا العالقة بين الدولتين بإحداث اختراق في الملف الأمني، وربما تلك الاشتراطات ظل يطالب بها الوفد الحكومي في كافة مراحل التفاوض بل ورهن إقامة علاقات سوية مع دولة الجنوب بتنفيذ تلك الخطوة وهو ما عضده كبار المسئولين بالدولة، وأمس الأول جدد وزير الدفاع الفريق أول ركن مهندس عبد الرحيم محمد حسين ذات القضية حيث قال إن ورقة الوساطة الإفريقية لم تتناول أهم بند بالنسبة للسودان يختبر به شفافية ومصداقية الطرف الآخر، والمتمثل في ضرورة الإقرار بوجود جماعات مناوئة تؤوى هنا وهناك”. وهو ما رفضه وفد دولة جنوب السودان المفاوض وأنكاره لاحتضان الجماعات السودانية المسلحة، ويبدو أن وزير الدفاع كان بحاجة لتقديم المزيد من الاسترسال حول ما ورد على لسانه وضرورة تفسير مقاصده من تلك القضية، وما إذا كان يقصد به رسائل سياسية أو يمثل إقراراً بغرض فتح صفحة جديدة للعلاقات.
ظروف دولية
ويرى أستاذ العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية بجامعة الزعيم الأزهري اللواء د.محمد الأمين العباس أن اللغة العربية مطاطة وتحتمل الكثير من أوجه التفسير التي تقود في كثير من الأحيان إلى بروز بعض التصريحات التي لاتكون مقصودة، ويضيف العباس لـ(السوداني) “لايمكن لأي وزير دفاع أن يسعى للحرب وأي وزير دفاع دائماً يسعى للسلام”، ويمضي العباس إلى التأكيد بأن الجانبين (حكومة السودان ودولة جنوب السودان) قد اتفقا على عدم الوقوع في أعمال عدائية مباشرة أو غير مباشرة مستبعداً بشدة أن تقوم حكومة السودان في ظل ما أسماه بالظروف الدولية الراهنة باحتضان أو دعم جماعات جنوبية متمردة، ويرى أن أي اختراق محتمل بين الوفدين سواء في أديس أبابا أو خلافها يحتاج لأن يتحلى الجانبان بمرونة كافية لحل القضايا الامنية، وربما العباس لخبرته في التعقيدات الأمنية يقول إن أي قضية أمنية مهما اعتراها من تعقيدات فإنها قابلة للحل وانتقد تأخر عرض تلك القضية للنقاش بين البلدين، داعياً حكومة الجنوب لضرورة أن لا تستمر في دعم ومساندة الحركات المتمردة على السودان إلى ما لانهاية لكون أن ذلك الموقف سيوقعها في ورطة بفعل تراكم القضايا الأمنية العالقة التي من شأنها أن تقود إلى قتال يؤخر من عملية التنمية بالجنوب وينعكس سلباً على التطور السريع في علاقات البلدين.
ورغم أن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة العقيد الصوارمي خالد سعد قال أمس في حديث لـ(السوداني) إن الأوضاع هادئة بمنطقة هجليج وإن لا شيء يذكر فيها، إلا أنه عاد وقال إن القوات المسلحة تقوم ببعض التمشيطات في المناطق القريبة من منطقة تلودي، ولم يعر الصوارمي الأحاديث الأخرى كبير اهتمام، وعدها قضايا سياسية.
صحيفة السوداني
تقرير: عبد الباسط إدريس