انشغل المجتمع السياسي في الاسابيع الماضية بتباين بين رؤيتي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في أمر المحكمة الدولية.. وأبعد الكثيرون النجعة ورأوا ان خط الحركة الشعبية لا يتماشى مع خط المؤتمر الوطني.
ولكن في رأينا، يمكن التوفيق بين الرؤيتين في أمر المحكمة الدولية بحيث تعمل الحركة من أجل التأجيل، والمؤتمر الوطني من أجل اجتثاث القضية وتجاوزها.. ولعل الخطين لا يتناقضان ولا ينسف احدهما الآخر بل يمكن ان يتكاملا.. فالتأجيل يعطي المؤتمر الوطني فرصة لخيار الإلغاء والاجتثاث نتيجة لتوفر عامل الزمن.
وفي هذا الإطار يحسن بنا ان نقرأ في مغزى ودلالات زيارة نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية الى نيويورك.. مع ان البعض يعتقد ان في ذلك افتئاتاً على وزير الخارجية.. إلاَّ أنه لا صحة لذلك.. فالأصل في ذلك الاجتماع ان يحضر رؤساء الدول، وكان ينبغي ان يذهب الرئيس البشير لهذه الدورة، ولكن ربما لانشغال الرئيس بالمتغيرات الداخلية وازدحام برنامجه فقد أوكل المهمة تكليفاً لنائبه الاستاذ علي عثمان محمد طه.. لذلك فإن ذهاب نائب رئيس الجمهورية كان قراراً موفقاً وهو المطلوب. كما أنه الرجل الأمثل لمثل هذه الملاحم وهذا من ناحية.
فرصة للدراسة
ومن ناحية أخرى كما قلنا فإن رؤية الحركة الشعبية التي يحملها وزير الخارجية لا تناقض بل تتماشى مع رؤية الإتحاد الإفريقي ورؤية الجامعة العربية ورؤية كثير من المكونات التي تنادي بتأجيل القضية لمدة عام.. والتأجيل لمدة عام يعني إعطاء فرصة للدراسة القانونية المتأنية ولتقليب المواقف والبدائل وإكمال الترتيبات الداخلية للمواجهة.. كما أنه في هذا العام ربما تحدث متغيرات دولية كبيرة ،كما حدث للإتحاد السوفيتي من فكفكة.. إذ في هذا العام قد تطفو قوة وتغطس اخرى وقد يبرز دور الصين وروسيا.. كما أننا لا ندري الى أي حد استشرت الأزمة الاقتصادية في جسم الولايات المتحدة الأمريكية، لكننا نعتقد ان هذه الأزمة مقروءة مع الهزائم السياسية ومع انحسار النفوذ السياسي ستكون لها مآلات ودلالات كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية.. خصوصاً وقد رأينا أمريكا بقضها وقضيضها تهرع للقائد الأممي القذافي الذي أهدى وزيرة الخارجية الأمريكية «كونداليزا رايس» الكتاب الأخضر وبعض الهدايا، ورفض ان يصافحها، ولعل هذا فيه من الدلالة على أن دور أمريكا في العالم قد بدأ في الإنحسار.
متغيرات كبيرة
ولهذا نقول إن هذا العام يمكن ان تتشكل فيه متغيرات سياسية كبيرة.. ومتغيرات اقتصادية كبيرة.. ومتغيرات اجتماعية كبيرة.. خصوصاً وأن السودان نفسه خلال العام سيكون ربما قد دخل مرحلة الانتخابات وحقق المشروعية السياسية وهذه مسألة مهمة.. فالنظام القائم الآن يفتقر للمشروعية السياسية الانتخابية.. وقام على مشروعية دولية وفق إتفاقيات السلام ابتداء من بروتوكولات نيفاشا الستة في يناير 2005م.. مروراً باتفاقيات أبوجا والشرق.. وأصبح رئيس الدولة هو الرئيس البشير الذي انتخب انتخاباً مباشراً من الشعب في وقت سبق الاتفاقيات. رئيساً بمقتضى الضمانات الدولية ونائبه الأول سلفا كير نتيجة لصفقة دولية ومؤتمر دولي ومرجعية دولية.
لكن هذه الضمانات والمرجعيات الدولية كلها ستذهب وتتفكك وتصبح السيادة مكتملة وتكتمل المشروعية حينما تتم الانتخابات في عام التأجيل هذا.
فلذلك يجب أن لا نبعد النجعة في افتراض التناقض التام بين رؤية الحركة الشعبية ورؤية المؤتمر الوطني.
شخصية عالمية
ومن ناحية اخرى كذلك فمن الأحداث البارزة التي لها وقعها من الدلالات زيارة الرئيس أمبيكي للسودان وهي مهمة، فأمبيكي أصبح شخصية عالمية.. وقد قام بدور واضح مع مانديلا في نسف وكسر الحصار على ليبيا.. كما أسهم أمبيكي كذلك في حل إشكال «زيمبابوي» ونحن نعلم أنه لولا موقف جنوب افريقيا لما وقفت الصين وروسيا هذا الموقف واستخدمت حق الفيتو في رفض طلب أمريكا والدول الغربية بعدم الاعتراف بالإنتخابات وفرض عقوبات على الرئيس «موغابي».
ولكن كذلك يجب ان نقرأ دور «أمبيكي» في رفع الحصار عن ليبيا ودوره في حل إشكال زيمبابوي قراءة موضوعية.. إذ استوجب ذلك في الحالتين إجراء جراحة عميقة وهيكلة لقواعد الحكم في «ليبيا» و«زيمبابوي».. ففي زيمبابوي تسلمت المعارضة رئاسة البرلمان بالاضافة الى ستة عشر مقعداً في الوزارة من ضمنها وزارة الداخلية.. كما أصبح زعيم المعارضة «مورغان» رئيساً للوزراء.
أين العرب
ومهما يكن فإننا نثمن دور الرئيس «أمبيكي» الذي نرجو أن لا ينتهي بتقديمه لاستقالته خضوعاً لرغبة حزبه، ولابد أنه قد توصل الى شيء من التفاهم مع الرئيس البشير. ولكن نسأل.. إذا كان قد زار السودان قبل قرارات المحكمة الدولية وزير الخارجية البريطاني.. وزاره عدد من وزراء الخارجية الأفارقة.. وزار الرئيس أمبيكي -بكل حجمه- السودان، فأين الرؤساء العرب؟ وأين التفاعل السياسي العربي باستثناء الدور القطري.. ومع ذلك فإننا نثمن عالياً التدفقات الاقتصادية العربية القادمة «الكويت» الشقيقة والمجروحة منذ حرب الخليج والقادمة من قطر والسعودية.
ولكن نعتقد أنه لابد أن يزيد من التنسيق مع «ليبيا». فليبيا تمثل العالم العربي في مجلس الأمن.. ولها حضور فاعل نسبة للجغرافيا السياسية والوفورات النقدية.. وديبلوماسية الغاز والبترول.
وقد زار السيد نائب رئيس الجمهورية الاستاذ علي عثمان ليبيا ولكننا نعتقد ان تلك الزيارة تحتاج الى متابعة يومية، ولابد ان تستمر الوفود والتداخل «السوداني الليبي».
روسيا والصفقة
وإذا تم استخدام الدور الليبي ودور جنوب افريقيا، فكذلك ننتظر زيارة كبرى من مسؤول سوداني رفيع الى «روسيا».. خصوصاً وان السفير الروسي هنا متعاطف مع المسألة السودانية.. ومتفهم لها.. خصوصاً وأن روسيا الآن أصبحت تتصدى للعدوان الغربي على العالم الثالث.. ولذلك يمكن التنسيق مع روسيا في كل المجالات السياسية والاقتصادية.. خصوصاً وأن روسياً قدمت طلباً لتمويل مصفاة بترول عملاقة في بورتسودان، ولا ندري لماذا لا تنال روسيا هذه الصفقة.. فالسياسة في النهاية لابد ان تستتبعها مصالح اقتصادية ونفوذ اقتصادي.
ولابد كماتم التمكين للصين في المسائل الاقتصادية السودانية وفق سيادة القانون ومصالح السودان أن يتم التعامل مع روسيا.. ومن المؤكد ان هذه الأشياء إذا تمت ففي مهلة العام فإن السودان ستصبح له «شوكة» مع الصين وروسيا وجنوب إفريقيا وليبيا ودول أخرى في أمريكا اللاتينية القادرة كذلك على التفاهم مع السودان.
ولكن هذا لا يعني كذلك انتفاء الحوار مع بريطانيا وفرنسا وأمريكا.. فلابد ان يتواصل الحوار من مركز قوة ومن مركزية المصالح المشتركة والقواسم المشتركة بين هذه الدول.
(كلمة) والقانون
وكذلك من الأحداث التي شغلت الناس في الاسبوعين الماضيين ما حدث في معسكر «كلمة» ولا نريد أن نمضي في التفاصيل عن ما حدث.. ولكن السؤال هل كان يمكن ان يستمر معسكر «كلمة» فوق القانون.. ونعتقد ان السبيل لسيادة القانون دون عنف ولمصلحة النازحين وانتظام الخدمات ولمصلحة التعليم ولمصلحة تجار الموبقات والمخدرات ان تسود لغة القانون والحوار في معسكر «كلمة».. ولذلك لابد ان تكون هذه المسألة في مقدمة أجندة والي جنوب دارفور، ولابد ان تكون في مقدمة أولويات الأجهزة الأمنية، وذلك بوضع استراتيجية متكاملة تؤدي الى سيادة القانون وأن تصبح الدولة حاضرة وقادرة وموجودة وتتعاطى مع الأشياء في معسكر كلمة.. فبعد الأحداث التي تمت فكأنه أصبح من المناطق المعزولة أو المقفولة. وأصبح يأوي كذلك الخارجين عن القانون والمتمردين وغيرهم.. وبالطبع فإن حركات التمرد تسعى لأن يكون لها حضور في هذا المعسكرالذي بشكله الحالي يمكن ان يهدد حركة التجارة ويهدد حركة المواصلات والمطار والإغاثة.. ويمثل تهديداً لمنطقة دارفور.
مطلوبات الشوكة
وكذلك لا نريد ان يسود القانون عن طريق العنف العشوائي وعن طريق الخطط المستعجلة، وإنما عن طريق رؤية متكاملة ومدروسة تتكامل فيها الخدمات والمحفزات وتتكامل معها كذلك مطلوبات «الشوكة».
ونسأل كذلك: لماذا لم تظهر الى الآن نتائج الإحصاء السكاني وكان المطلوب ان تظهر خلال سبعة أسابيع من إكتمال الإحصاء كخطوة نحو الانتخابات.. لأن الإنتخابات والجدل الإنتخابي حول الإحصاء نفسه سيستغرق أسابيع.. ونحن الآن والسنة تكاد تكتمل وليست هناك تصريحات أو معلومات متوفرة.. بل تأتينا المعلومات بأن بعض المناطق لم تصل حتى أوراقها.. ولذلك ننبه القائمين على أمر الإحصاء السكاني الى أن الإحصاء مهم ومحوري للحكم اللامركزي ومهم للخدمات ومهم لتوزيع السلطة والثروة ومهم للإنتخابات.. كما ان الإنتخابات خطوة في اتجاه المشروعية.. فالنظام مكبل بهندسة سياسية خارجية ومشروعية دولية وليست سياسة تفويضية نابعة من الداخل.. كما أن الإنتخابات خطوة لتفكيك القنابل الموقوتة ضد النظام. وهذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى، فإن قوة الشارع الإسلامي تبرز في ساعة الإفطار.. ولكن لماذا جاءت هذه الخاطرة.. تجيء هذه الخاطرة لأن الكثيرين يتحدثون عن التغيرات الديموغرافية والتحركات السكانية. وأن الخرطوم أصبحت مدينة غير مسلمة وأنها لا تشبه المدن العربية الاسلامية. ولكن يكذب ذلك ما يحدث في الشارع الخرطومي في ساعة الإفطار.. حيث تتعطل الحركة تماماً.. لأن «90%» من سكان العاصمة في حالة صيام وإفطار.. وإلا لماذا يعم هذا الصمت الاختياري المحض.. غير أن الجميع يحسون بأن الحركة في هذا الوقت شذوذ وهذا رد عفوي وتلقائي للذين يفسرون الديموغرافيا والتحركات السكانية الحادثة بأنها غير متماشية مع الخط الإسلامي.. ونحن لا نريد أن نستبق الإحصاء السكاني.. ولكن نقول ذلك لأنه ما زال كثير من حركات «الزنوجة» والشذوذ عن التوجه الإسلامي حركات معزولة وضعيفة، وتكشف عنها المسارات الرمضانية. وهذه الخاطرة تستتبعها خاطرة اخرى للذين يخشون على المد العروبي والاسلامي في الخرطوم.. فالخرطوم ليست «زنجبار».. ولكن حتى «زنجبار» وإن تخلصت من قبضة الأقلية العمانية إلا أن الصف الاسلامي فيها ما زال على أشده، والتيار الإسلامي والأحزاب الاسلامية -على افريقيتها- تنضح بالاسلامية وتحن للسان العربي وتقيم في الكليات العربية الاسلامية وفي الانتخابات تتوجه توجهاً إسلامياً.
خاطرات الوارد
ولكن على ضوء هذه الخاطرات وعلى ضوء هذا الوارد السياسي نقول إن هناك ضوءاً يتشكل فيما يبدو وكأنه نفق مسدود.. وهناك ضوء يتشكل في نهايات هذا النفق. وعلى ضوء ذلك نكتب هذه الخواطر.. فمعظم رؤساء دول العالم الثالث والدول الافريقية بدأوا يتفهمون قضية دارفور.. ويتفهمون أن السياسة الدولية أكبر من المشكلة.. وأن السياسي داخل حركات التمرد بات مضخماً على حساب التاريخ والجغرافيا والمستقبل.
ومن ناحية اخرى ان معظم الرؤساء الأفارقة بدأوا يتشككون في نوايا النظام الدولي.. ويتشككون في محكمة الجنايات الدولية.. بل ان بعض الرؤساء سحبوا مشاريع التصديق من برلماناتهم على نظام المحكمة الدولية كما فعل الرئيس علي عبدالله صالح في اليمن و آخرون.. إذاً المجابهة مع السودان أدت الى إضعاف مصداقية محكمة الجنايات الدولية.. وأدت الى التوعية بالهيمنة الأمريكية على المحكمة الدولية من خلال مجلس الأمن.. ومع هذه الهيمنة فإن أمريكا تلعب دوراً مزدوجاً لأنها رأت أن تكون لها حصانة من محكمة الجنايات.. والدول الأساسية الكبرى كلها غير موقعة على ميثاق محكمة الجنايات.. فروسيا والصين غير موقعتين على محكمة الجنايات وامريكا رافضة أصلاً لمبدأ محكمة الجنايات.
ظاهرة فضائية
الأمر الآخر ان حركة الجيش السوداني الفاعلة التي أخذت تبسط الأمن وسيادة القانون وحضور الدولة في ربوع دارفور هي مسألة مهمة.. لأن حركات التمرد الآن أصبحت ظاهرة فضائية وتنعق في الفضائيات بدون حضور عسكري وبدون فعل ميداني.
والمسألة الاخرى التي أصبحت واضحة هي إحساس زعيم العدل والمساواة خليل إبراهيم بالأزمة، حيث ان معظم رجاله باتوا في الأسر.. بل يقال إن هناك ضغوطاً أسرية وقبلية شديدة عليه للتفاهم مع السلطة في سبيل فك أسر اخوانه وأبناء عمومته وقبيلته.. كما أن العلاقات «السودانية- التشادية» في طريقها الى التحسن وهذا يضعف علاقته أيضاً.
جملة مفيدة
إذاً، المرحلة باتت مرحلة وفاق.. والجميع يئس من العنف والحرب.. وخليل إبراهيم الذي غزا أمدرمان وكان يعتقد انها ستقوده الى فتح كبير، دخلت عليه غزوته بالساحق والماحق والبلاء المتلاحق.. وأصبحت حتى أسرته الممتدة، في خيمة عزاء متواصلة وذلك في سبيل الغطرسة وأوهام تشكيل السودان وأوهام المدافعة عن المجموعات السوداء وغيرها.
أما عبدالواحد، فقد أصبح بلا شوكة عسكرية، ويستمد نفوذه فقط من اللوبي الصهيوني وهذا جسم مرفوض في دارفور.. وجسم مرفوض على امتداد السودان.
وحتى السيد مني أركو مناوي يجد نفسه في وضع صعب ويشعر بأنه بات في معادلة صفرية. والمعادلة الصفرية هي التي يكون فيها الجميع خاسراً.. أي أنه خاسر والوطن خاسر والحركات المتمردة خاسرة ودارفور خاسرة.. ولذلك ليس له من سبيل إلا الخروج من هذه المعادلة الصفرية بمزيد من الحوار وبمزيد من مد الأيادي.
إذاً، الكرة في ملعب الحكومة السودانية. كما أن الأوراق المهمة كلها في يد النخبة الحاكمة.. وعلى النخبة الحاكمة أن تجتهد وتبرز أجندتها وتبرز أولوياتها.. وعليها ان تستعين بكل المكونات وان تكون مفتوحة أمام أجهزة الإعلام، فلا يعقل ان تعمل أجهزة الإعلام الوطنية والحرة مع النخبة الحاكمة وتكون غير متواصلة معها طالما تلفوناتهم مغلقة، وطالما لا يريدون ان يتكلموا بجمل مفيدة.. وإذا كانت النخب الحاكمة لا تريد ان تتكلم بجمل مفيدة.. وتترك المسألة كلها على عاتق الرئيس البشير فمن سيكتب الجمل المفيدة ومن سيحركها؟..
على أسماعيل العتبانى :smc[/ALIGN]