بعد أيام قصيرة قضيتها في رفاهية في مستشفى السجن، جاءني حارس يوما ما وقال إنه تقرر نقلي الى “الشرقيات”، وحزنت لأنني تعرفت في المستشفى على نفر كريم من المعتقلين، ولأنني سأفارق المطرب الكبير محمد وردي الذي كنت أجلس معه الساعات الطوال ندندن، وشهدت مولد أغنيته الشهيرة “قلت أرحل”، ونمارس النميمة والحش في الآخرين باللغة النوبية.. لم نكن نفعل ذلك، ولكن الناطقين بالعربية يتحسسون عندما يجلس بينهم نوبيان أو أكثر ويحدث تبادل جانب من الحديث باللغة النوبية.. أنا أتفهم ذلك، وكنت سأتضايق لو كنت أجالس بعض الناس وطفق بعضهم يحدث بعضا باللغة البلجيكية او المكسيكية (إذا كنت قارئا من النوع الذي نسميه في السودان “دايش”، أي تعاني من فقدان التوازن العقلي المؤقت، فاعلم انه لا توجد لغة بلجيكية او مكسيكية.. وأستخدم هذه الحيلة كثيرا في مقالاتي وأحاديثي، تماما، وكما أشرت في مقال سابق كأن أسأل أحدهم: هل تحفظ شيئا من سور جزء عم، فتكون الإجابة في غالب الأحوال بنعم فأسأله: طيب.. في سورة النازعات.. والنازعات نزعٌ أم نزعا؟ في 95% من الحالات سيجيبك حتى من يحفظ معظم سور القرآن تجويدا وترتيلا: النازعات نزعا!! في حين أن الآية الكريمة تقول: النازعات غرقا،.. ولا يخطئ الناس في الإجابة لجهل أو عدم معرفة بتلك الآية، بل لأن السؤال مضلل ويستدرجك للخطأ.. كأن تطلب من أحدهم أن يجيب عن السؤال التالي بنعم أو لا: هل توقفت عن ضرب زوجتك؟ إذا قال نعم فإنه يوحي بأنه كان يضربها وإن قال لا، فهي “لا”)
المهم انتقلت الى الشرقيات وهي حفرة عميقة، بها زنازين واسعة ورحبة، وبعكس بقية أقسام سجن كوبر فإن جدران الزنازين الشرقية من الارتفاع بحيث تصبح رؤية القمر “في تلتلة”.. الزنازين تقع بالضبط أسفل الجانب الشمالي من جسر القوات المسلحة (كوبري كوبر) ولكن لو استعرت رقبة زرافة ما نجحت في رؤية الجسر الذي يرتفع نحو ثلاثين مترا فوق سطح الأرض.. ووجدت في الشرقيات خلقا كثيرا، وكالعادة – عند قدوم ضيف جديد الى أي قسم في السجن- احتفلوا بي، ولم يكن الحراس يغلقون أبواب الزنازين في هذا القسم، وكان كل بضعة أشخاص يتقاسمون الزنزانة الواحدة، لأنها واسعة كما قلت (ويبدو أنها شيدت للحبس الجماعي)، وبعد انتهاء حفل استقبالي دخلت الزنزانة للنوم بعد تبادل بعض الحديث مع اثنين كانا يشاركانني إياها، ثم “تصبحوا على خير” ونمت، وسمعت وأنا نصف يقظان صرخات شخص يعاني من ألم مريع.. كان التنبلان اللذان معي نائمين ولم يوقظها العويل فهززت أحدهما وقلت له: سامع؟ فرد: أيوه سامع اتخمد ونوم.. صحت فيه: يا ح… ن، كيف أنام ولا أعرف مصدر الصوت؟ ربما زميل لنا معتقل يتعرض للضرب أو وجع ضرس العقل.. انتفض صاحبي جالسا وقال في غضب: ده زول في زنازين الإعدام اللي ورانا وغالبا الإعدام حيكون الصبح!! ارتحت .. يللا نوم.. وكانت الأيام التي قضيتها في الشرقيات أتعس أيام السجن وكنت أنام بالنهار وأصحو الليل بطوله خوفا من كوابيس المشنقة.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com