بعد ان صرنا أنا والقبطان “راس”، أي بمفردنا في قسم كامل في السجن، انقلب علي، فكان كلما مر بنا السجانون يردد دعاء من شاكلة: اللهم انصر جعفر نميري على أعدائه،.. ولأنه لم يكن يعرف لي لونا سياسيا معينا فقد كان أيضا يرفع يديه بالدعاء: اللهم شتت شمل الشيوعيين والإخوان المسلمين واليهود والنصارى،.. وكمان البعثيين، وانصر نميري على القوم الكافرين، كان المسكين يعتقد ان العساكر سيبلغون نميري بأن هناك سجينا يحبه ويدعو له بالخير،.. وكثيرا ما قلت له: يا كابتن.. عساكر السجن لا يعرفون نميري بل إن بعضهم ما زال يعتقد أن الإنجليز يحكمون البلد.. اترك نميري في حاله واطلب من الله الفرج لنفسك، بل من مصلحتك ان ربنا ياخد نميري عشان تسقط عنك تهمة مساعدة المعارضة!! بس مفيش فايدة.. ظل يدعو علي بطريقة غير مباشرة عدة مرات في اليوم حتى كاد ان يسبب لي انهيارا عصبيا، وحدثت قطيعة بيننا.
كان حوش زنازين الغربيات الجديدة ملاصقا لمستشفى السجن، وبين الحين والآخر كنت أرى بعض نزلاء المستشفى يمرون أمام باب حوش الزنازين فنتبادل التحايا القصيرة، وذات يوم مر بي الصديق محمد وردي (مطرب أفريقيا الأول)، وكانوا ينقلونه الى المستشفى العسكري لمقابلة طبيب أخصائي، كحال بقية المعتقلين، الذين تتطلب حالاتهم الصحية رعاية خاصة، فحكيت له حكاية الكابتن وقلت له: لو بقيت في هذه الزنازين يا قاتل يا مقتول، فطلب مني ان اصبر يومين او ثلاثة، ولكن وفي عصر نفس اليوم فوجئت بحجر يسقط داخل حوش الزنازين وعرفت أنه رسالة من “جيراني” في المستشفى، فقد كان ربط الرسائل على حجارة هو أحد الوسائل المتاحة للتخاطب عبر أقسام السجن، وكانت الرسالة تقترح علي ان أختار لنفسي مرضا “محترما” يتطلب نقلي الى المستشفى، و”خلي الباقي علينا”،.. فكرت لعدة دقائق: تمرض بإيه يا أبوالجعافر؟ حمى؟ مش ممكن.. سيأتي الممرض ويقيس درجة حرارة جسمي ويكتشف أنني شخص بارد؟.. إسهال؟ العلاج في الحمام.. وهناك صاحبي القبطان الذي من المؤكد أنه سيشهد لمن سيأتون لنجدتي بأنني مستهبل، وفجأة انتبهت الى مظروف ورقي في زنزانتي كانت به أقراص فيتامين ب، وتفتقت عبقريتي عن حيلة ماكرة: تلك الأقراص مكسوة باللون الأحمر.. وبكل مهارة قمت بتذويب بعضها في الماء وتشكل عندي سائل أحمر.. نثرت منه كميات تجارية على قميصي، والجزء الأسفل من وجهي مع رسم خطوط تؤكد أن الأنف هو منبع الدم المفترض وخرجت من الزنزانة مترنحا، ورآني الكابتن وصرخ مرعوبا.. ربما خشي ان أزعم أنه اعتدى علي بالضرب ثم جرى نحو الديدبان، وهو الحارس القابع في البرج الذي فوق الحائط، وأبلغه بحالتي، وخلال دقائق كان عم “الصادق” الممرض بعيادة السجن ومعه حارسان ينقلانني وأنا “خائر القوى” إلى مستشفى السجن.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com