قلت إنهم كانوا يخصصون للسجين في زنازين سجن كوبر قصرية بيضاء يستخدمها كدورة مياه، وقصرية صغيرة فضية من الألمنيوم يضعون له فيها الطعام ثم يغسلونها ويصبون له فيها الشاي والماء.. كان وجود القصرية أكثر ما يضايقني ويكسر خاطري، وكان أسوأ من استخدامها أنهم كانوا يفتحون لك باب الزنزانة كل صباح لتفريغ محتوياتها في دورة المياه الصحيحة، ويعدها تنظف أسنانك وتستحم.. كل ذلك في حدود نصف ساعة.. مازلت إلى يومنا هذا أتذكر حالتي وأنا أحمل القصرية بكلتا يدي، وأمشي بحذر وأنا مطأطئ الرأس، كمن يحمل دليل إدانته في جريمة تتعلق بالشرف، ولكن شيئا فشيئا صارت الزنازين من حولي ومن أمامي مأهولة، فبعد كل كذا يوم كانوا يأتون بمعتقل جديد أو أكثر، وكنت سعيدا لتمكني من رؤية ثلاثة أشخاص على الأقل في الزنزانات المقابلة،.. كنا نجلس كالقرود ملتصقين بأسياخ الزنازين وممسكين بها ونتآنس لساعات متأخرة من الليل.. ما ورانا شيء.. نشارك في مطارحات شعرية، ونجري مسابقات في حل الألغاز.. كان في إحدى الزنازين إمام مسجد في الخرطوم، وكان كلما قال أحدهم خلال المطارحات الشعرية بيتا من الشعر النواسي به “قلة أدب”، صاح وهو يضحك: اسكت يا مطموس عشان ربنا ما يغطس حجرك!
بعد نحو شهر من الحبس الانفرادي، صاروا يفتحون لنا الزنازين منذ الصباح الباكر وحتى بعد وجبة الغداء، ثم يسوقوننا مثل الدجاج الى زنازيننا الخاصة..وبعدها بنحو اسبوع صار عددنا كبيرا ولم يعد ممكنا تخصيص زنزانة لكل معتقل، فتوقفوا عن إغلاق الزنازين علينا وصرنا نقضي معظم الوقت مع بعضنا البعض نتآنس ونتشاكس، ولكن الغريب في الأمر ان كل واحد منا كان عندما يريد ان ينام يدخل زنزانته ويغلق بابه عليها، غير منتبه الى ان بابها لا يستر من الأعين، ولكنه التعود والاعتياد.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com