أزمة ثقافة أزمة وطن: ثقافة الوفاء بالوعد

[ALIGN=CENTER]أزمة ثقافة أزمة وطن: ثقافة الوفاء بالوعد[/ALIGN] نعود لنتواصل مع أزمة الثقافات المفقودة في وطننا على كل المستويات، وخاصة بين المتعلمين والمثقفين، وهي الفئة المنوط بها القيادة والريادة وتشكيل النخبة التي تمثل القدوة الحسنة، وتصنع الأحداث، وتغير التاريخ السلبي لتصنع مستقبلاً مضيئاً لوطن عزيز. للأسف هذه النخبة تقدم أسوأ الأمثلة في مختلف الممارسات التي تناولنا الكثير منها، ونعود لنواصل الحديث حولها، علَّها تصبح من الماضي في وقتٍ، بإذن الله.
من قبل حدثتكم عن ثقافة احترام الوقت المفقودة في وطننا، وهي لا تختلف عن فقدان ثقافة الوفاء بالوعد، التي تكون أكثر خطورة وتأثيراً على المجتمع، لكنها تحمل بين طياتها الكثير من السلبيات، كعدم الاهتمام بالوعود، والقيام بالواجب، وسداد الدين، والالتزام بالميعاد. فعلى سبيل المثال لقد لاحظت أن الغالبية من الناس في السودان لا يرد في هاتفه على رقم لا يعرفه، سواء أكان هذا الشخص مهماً أو من العامة، وعندما سألت عن الحكمة في ذلك لأنني افترضت أنها نوع من التباهي أمام النفس ومنح الذات أهمية مصطنعة عبر هذا التصرف غير الحضاري؛ فأخبروني أن تفسيري جزء صغير من الحقيقة، لكن في واقع الأمر أنه تهرُّب من أن يعثر عليه الشخص المتصل، الذي يغيِّر رقم هاتفه كي لا يتجاهله المتلقي، وهذا التهرب عادة ما يكون لعدم قدرته على الوفاء بالتزام مادي أو معنوى، أو تهرب من مسؤولية، أو خوف من سد حاجة، لذلك تصبح رنة الهاتف بعبعاً لصاحبه، وفي أغلب الأحيان لا يرد عليك الشخص إلا في ما ندر، وفي ما رحم ربك.
أنا شخصياً بعد عدة تجارب قررت ألا أدين أحداً أو أستدين من أحد، ومن كان صاحب حاجة وجعلني الله قادراً على مساعدته أقدم له العون دون ديْن أو أعتذر له، وإن كنت محتاجاً أطلب المساعدة مباشرة ودون استدانة، لأن تجربتي مع الذين يطلبون الديْن ويعدون بالوفاء به فاشلة، ليس لأنني في انتظار رد الديْن، لكن لأن هذا الشخص، مهما كان قريباً منك، تخسره إلى الأبد، لأنه يظل يتهرب منك في كل سانحة حين يعتقد أنك ستطالبه برد الديْن، ووقتها أكون قد نسيت الأمر وأعفيته من السداد. ليست الحاجة أو ضيق اليد هي السبب في عدم الوفاء، بل هو عدم الاهتمام بالأمر أصلاً، والسائد لدينا هو عدم الوفاء وعدم الالتزام بما نتعهد به أمام أنفسنا وأمام الآخرين وأمام الله من قبل ومن بعد.
لقد وردت كلمة (وعد) بصيغها المختلفة حوالي 122 مرة في القرآن الكريم، وقد جاءت جميعاً في محافل ترغيب وترهيب، تجعلك تشعر بقيمة الوعد إن أتى من الخالق أو من العبد، وأهمية الوفاء به، والذي ورد في آيات كثيرة كقوله عزّ وجلّ (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) صدق الله العظيم. وقد ورد معنى الوفاء كذلك في محل الالتزام بالأمانة والثقة التي يمنحها الناس لصاحب الشأن مثل الذين يقومون بالبيع والشراء، فعليهم الوفاء بالكيل وهو التزام بالوعد الذي أقاموه أمام الله سبحانه وتعالى وأمام الناس (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) صدق الله العظيم.
تمتد ثقافة عدم الوفاء بالوعد لتشمل أصغر الأشياء مثل الزيارات العائلية وزيارات الأصدقاء، الإيفاء باحتياجات الآخرين عند طلبها، فالموافقة على أدائها والواحد منا يعلم أنه لن يحاول الإيفاء يعتبر أمراً شنيعاً وعاراً كبيراً والأجدر بكل تأكيد الاعتذار حتى وإن غضب الطرف الآخر. الغريب في الأمر أنه قد أصبح الواعد والموعود لا يعيران الحدث انتباهاً، فالواعد لا يهتم بإنجاز ما وعد به والموعود أصلاً لا يصدق الواعد فأصبحت كثير من الأمور من باب (مشِّي حالك)، وكلمة من هنا وكلمة من هناك وحديث لا قيمة له. وقد أنكر الله على من يعد وعداً لا ينفذه أو من يقول كلاماً لا يفعله حين قال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ). ويشبه هذا الفعل الطريقة التي نسلم بها على بعضنا البعض، والتي تحمل كلمات طيبات لكنها من اللسان فقط، حيث لا نستمع إليها من الأساس ونتبادلها في وقت واحد بشكل زائف، خاصة في المناسبات مثل حفلات الأعراس التي تمثل قمة الزيف في مجتمعنا. وحتى هذه الكلمات الطيبات تحولت الآن إلى جمل فارغة مثل: كيفك.. تمام.. عامل شنو عليك الله.. والله تمام.. كيف الدنيا معاك.. تمامين التمام؟ ابقوا اظهروا ياخي.. خلاص بنجيكم.. الأسبوع الجاي معاكم والله. وهكذا تكون الأشياء بلا فعل ولا معنى لها في كل شيء تقريباً. أما الوفاء بالموعد والحضور في الوقت فهذا أصبح شيئاً خارج خريطة الإصلاح وأصبح ثقافة سائدة بين الجميع، فلا صاحب المناسبة يعطيك الوقت الصحيح لأنك لن تحضر فيه، ولا المدعو سيلتزم بالحضور في موعده ويختلط الحابل بالنابل وصار الأمر جميعه مواعيد سودانيين.
يمثل عدم الوفاء بالوعد معضلة حقيقية في مسيرة تنميتنا المادية والفكرية والإنسانية، لأن مثل هذه الثقافة المفقودة تجعل من المستحيل التخطيط لأي أمر أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم إنسانياً، أم حتى صحي، وأصبح من الصعب التعامل بثقة حتى مع الأقربين في شتى الأمور. المصيبة أن عدم الالتزام هذا تجاوز الفرد للأسرة وللمجتمع وللدولة نفسها في مختلف مؤسساتها وإداراتها، فلا أحد يحاسب الآخر، أو أصلاً يغضب من عدم الوفاء والالتزام لأن عدم الالتزام هذا هو السائد ويصبح أمراً عجيباً إذا أوفى أحدهم بعهده إليك، أو حضر في ميعاده. الأدهى أن الموضوع يسير من سيء إلى أسوأ، فمثلاً قمت بزيارة للدوحة في عام 1988 لأمر يتعلق بتطوير مستشفى الشعب، وعند عودتي أعطاني أحد السودانيين مبلغ 10 آلاف دولار نقداً لأسلمه لشقيقه بالسودان، ولم يأخذ مني وصل أمانة أو ما يثبت أنه سلمني المبلغ، وهو لا يعرفني، لكنه بحكم أنني سوداني فقد اعتبرني تلقائياً مصدر ثقة لديه غير قابلة للشك. عند وصولي إلى الخرطوم قمت مباشرة بالذهاب إلى منزلهم وسلمت الأمانة لشقيقه الذي شكرني بصورة عادية بحكم أنني لم أفعل شيئاً غير عادي ولم يخطر في باله أصلاً أنني قد أتأخر عن تسليم الأمانة. وكذلك كان موقفي في أن هذا الفعل هو عمل عادي وبسيط وواجب ألتزم به دون تفكير، دعك من مجرد أن يراودني الشيطان للقيام بأي شيء به خيانة للأمانة. صدقوني قبل عدة أشهر أرسلت دواءً مع أحد الأشخاص – وليس مالاً – لمريض في أقصى حاجة له ولم يصل هذا الدواء حتى الآن؟! ومن أرسلت معه الدواء صار لا يرد على هاتفه ثم بعد ذلك تحول هاتفه إلى خارج السجلات. الآن وبصدق وبصراحة هل يجرؤ أحدكم على إرسال مبلغ 10 آلاف دولار أو حتى نصفه مع شخص سوداني لا يعرفه – أو يعرفه حق المعرفة – كما فعل معي ذلك الرجل قبل 22 عاماً؟ لا أعتقد أن هناك بقية من ثقة في ما يتعلق بالمال! وحتى لو كتبنا الديْن فالذي لا يوفي به يفضل البقاء في السجن على أن يفي بالوعد ويعيد لك مالك.
مدخل للخروج:
حتماً سأبقى في انتظارك عابراً كل الصحارى والقفار.. ومجاهداً بالشوق وحدي حالماً حتى تعودي للديار.. يا زينة الأختام قدرك عالمي وأنا المرابض في كهوفك بين رايات التمني والحريق على سعير الانتظار.. فالآه من رئتيك موت وارتقابك احتضار.. حتى بأحضان الخيال ومده يبقى منامي فوق صدرك انتحار.. يا نجمة الوطن البعيد أنا هنا فالدرب قفر والطريق إليك ما عاد اختصارْ.. (معز).

معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com

Exit mobile version