الحب الأول والوحيد في الجامعة

[ALIGN=CENTER]الحب الأول والوحيد في الجامعة [/ALIGN] على عهدنا بكلية الآداب جامعة الخرطوم، كان تدريس اللغة الإنجليزية وآدابها وقفا على البريطانيين والآيرلنديين.. كانت هناك مس كوك وكنا نسميها “حبوبة” بمعنى “جدة”، فقد كانت باسمة على الدوام، وكانت تدرسنا شيئا من الشعر، ولكن مجال تخصصها الأساسي كان الأدب الروائي.. كان صوتها خافتا رغم حدته، ولم تكن هناك مايكرفونات في قاعات المحاضرات، وبالتالي كانت محاضرات مس كوك فرصة لجماهير المقاعد الخلفية لممارسة النوم من دون ان تفطن هي إلى ذلك، فقد كان مدى إبصارها أقصر من مدى صوتها.. كانت تحبني بلا تحفظ أو مداراة وعلى المكشوف، فإذا رأت اسمي على ورقة أعطتني درجة عالية من دون ان تكلف نفسها عناء قراءة محتواها.. وكان حبا من أول نظرة، وفي بداية السنة الأولى كانت قد كلفتنا بكتابة مقال نقدي عن قصيدة الملاح القديم لسامويل تيلر كولردج، وهي قصيدة عانت منها أجيال متعاقبة من طلاب كلية الآداب لنحو 40 سنة، وجاء يوم توزيع الأوراق وعليها الدرجات ونادت “خضر” فتقدم الزميل خضر ليتسلم ورقته فنظرت إليه وقالت (بكل بجاحة) بصوت متهدج إنها آسفة لأن الأمر اختلط عليها.. وتعجب خضر لتأسفها لأنه كان قد نال درجة ممتازة في تلك الورقة، وأوضحت لي مس كوك الأمر لاحقا بأنها حسبت أن خضر هو “جعفر” ومنحته الدرجة “المخصصة” لي ومنحتني (بالتالي) الدرجة التي استحقها بدون محاباة، فقلت لها: ولا يهمك يا حبوبة لأن خضر فعلا طالب متفوق وبالتأكيد يستحق الدرجة التي كان من المفترض ان أنالها أنا، وهكذا صار خضر أيضا (ببركاتي) من أحبابها.. كانت كوك الأنثى الوحيدة التي أحبتني في الجامعة، ولكن عزائي أنها كانت أنثى ناضجة وليست ساذجة فقد كان عمرها نحو 75 سنة فقط.
وكان هناك ماكراي، ذو الشعر المسدل، وأصغر أعضاء هيئة التدريس، وكان يدرسنا الشعر الإنجليزي، وعلى وجه خاص ما يسمى بالشعر الميتافيزيقي، وهو شعر فحواه من عنوانه.. شعر مشبك ومشربك ومخربط وملخبط اشتهر به أندرو مارفِل وجون دان، ووليم بليك الذي يسبب شعره تلبكا في المعدة يؤدي حتما الى الإمساك والإصابة بالباسور والناسور، ولكن ماكري كان يقرأ لنا شعر أولئك الشعراء المجانين، وهو في حالة جذب صوفي.. لم يكن يقرأ الشعر إلا جالسا وواضعا رجلا على رجل بصوت شجي أرغمنا في النهاية على استلطاف الشعراء الميتافيزيقيين الى حد ما.. وكان في شعبة اللغة الانجليزية ايضا الآيرلندي أودنهيو الذي لم يكن يرتدي غير الشورت، وكان ضخما في كل شيء، حتى صوته كان ضخما.. وكانت هناك الآنسة الحليوة مس سميث، وكانت جميلة – كما أدركنا لاحقا بعد أن رأينا نساء الخواجات في مواطنهن الأصلية- فقط مقارنة بمن حولها من محاضرات، وكانت تدرس علم اللغويات linguistics وكنا نلاحظ أنها تلاقي صعوبة في تدريس تلك المادة، وبالتالي كانت محاضراتها مملة، ولكن ومع ذلك “كاملة العدد” فقد كان كثيرون يجلسون أمامها وهم “طالعين كيت” أي لا يفهمون شيئا، فقط للتمتع بمفاتنها المفترضة.. وتزوجت لاحقا بحبيبنا جون أباظة عاشق شكسبير وانجبت منه طفلا ثم هجرته وهربت عائدة الى بريطانيا، وظلت اجيال متعاقبة من طلاب آداب جامعة الخرطوم تصب عليها اللعنات لأنها جرحت أباظة الرقيق المرهف الحساس، ووقتها كان بشعبة اللغة الانجليزية عدد من الأساتذة السودانيين كرسوا الشهور لمواساة أباظة حتى اجتاز محنة الهجر من قبل مس سميث (مسز أباظة) الغبية وظل محاضرا في الكلية حتى صار عاجزا عن الحركة بسبب عامل السن
ثم انضم ثيلوال الى الشعبة، وكان متخصصا في مجال الصوتيات، وأنشأ أول مختبر للغة الإنجليزية، ولم ينصرف فقط للتدريس بل عكف طوال سنوات عمله في جامعة الخرطوم على جمع مختلف الأصوات في اللغات المحلية السودانية وأرشفتها، واسترزق بعضنا من العمل معه خلال العطلات الصيفية، فقد خصصت الجامعة ميزانية كمان فيه ضحك؟ لجهده ذاك وكان يعطي أجرا للطالب الذي يذهب الى مناطق نائية ويسجل القصص الشعبية باللغات واللهجات المحلية على ألسنة كبار السن بوصفهم الأكثر إجادة للغة.. وفي كل محاضرة للصوتيات phonetics وهي مادة صعبة ومعقدة في بادئ الأمر، كنت أتذكر زميلي في المدرسة المتوسطة ساتي عبد الدائم الذي غاظه انني ضحكت عند سماع مقطع من حكاية بالانجليزية كان المدرس يتلوه علينا فصاح محتجا: الإنجليزي كمان فيه ضحك.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version