عم السر وعم حمودة

[ALIGN=CENTER]عم السر وعم حمودة [/ALIGN] هناك معالم وشخصيات في تاريخ جامعة الخرطوم لا علاقة لها بالجانب الأكاديمي، فقد كان هناك مقهى “النشاط” وكثيرون لا يعرفون ان التسمية غير رسمية بل فبركها الطلاب، فقد كان لرسام الكاريكاتير المصري العملاق الراحل صلاح جاهين رسم ثابت استمر سنوات، لـ “قهوة النشاط” يجلس فيها بعض الخاملين يتكلمون في “الفارغ”، وبالتالي سميت تلك الكافتيريا بـ “النشاط” بنفس المعنى المراد لها في كاركاتير جاهين، أي مقهى الخمول حيث يجتمع الطلاب “المزوغون” من المحاضرات لشرب الشاي وعصير الليمون و… المشروبات الغازية (لمن استطاع إليها سبيلا، فقد كانت قيمة الزجاجة من هذا الصنف من المشروبات تعادل أجرة التاكسي بين مدن العاصمة السودانية الثلاث وبالتالي لم يكن يتعاطاها إلا أبناء الذوات.. وكانوا على أيامنا أقلية مضطهدة.. في حين كان أبناء “الذين” يكتفون بالشاي أبو قرش واحد) هم الكثرة.
كان أكثر الشخصيات شعبية في جامعة الخرطوم هما عم “السر” الذي يدير قهوة النشاط والحلاق عم حمودة، وكانت الجامعة هي حياة كليهما، وتوطدت علاقتهما بأجيال كثيرة من خريجيها.. كان مقهى النشاط يعج بالطلاب منذ السادسة صباحا وحتى بعد منتصف الليل، ويجلس عم السر ليل نهار على سرير منسوج بالحبال المصنوعة من الألياف (عنقريب)، ويحلف بالطلاق على كل من يجلس حوله في دائرة نصف قطرها ثلاثة أمتار ان يشرب شايا أو عصيرا، وهكذا ظل بعض الطلاب يشربون ما يشاءون من المقهى ببلاش كي لا يقوم عم السر بتطليق زوجته.. وكان عمنا هذا يحفظ أسماء المئات من الطلاب والطالبات، ولديه شلة خاصة من الجنسين لا يسمح لها قط بدفع قيمة ما يشرب أفرادها، بل كان الطاقم الذي يعمل معه ومن بينهم بشير وعبدالغفار وعباس، يقولون “ولا يهمك” لكل من يعجز عن دفع قيمة ما يشرب، وهكذا أيضا ظل بعض الطلاب يشربون ببلاش طوال سنوات الدارسة مستفيدين من هامش “ولا يهمك”.
أما العم حمودة العركي فقد كان حبيب الملايين، كان قد انتقل الى جامعة الخرطوم بإلحاح من طلاب مدرسة حنتوب الثانوية التي كان يملك بداخلها صالونا للحلاقة، ورغم انه كان يستعين بعدد من الحلاقين فإن من الطلاب من كان يؤجل حلاقة الشعر أشهرا حتى يجد فرصة الجلوس في كرسي حمودة شخصيا.. ليس لأنه كان حلاقا ماهرا فحسب (وقد كان كذلك)، بل لأن الحديث معه كان ممتعا أيضا.. شخصيا أعتبر كرسي الحلاق مثل كرسي الأسنان (هل تعلم ان فكرة كرسي الإعدام الكهربائي الذي يستخدمه الأمريكان مستوحاة من كرسي الأسنان)، لأنني أحس بالملل وأنا أجلس بلا شيء يشغلني، وبسبب ضعف النظر فإن مرآة الحلاق لا تعني بالنسبة إلي شيئا، ولكن الجلوس تحت مقص حمودة كان يعني فاصلا من المرح والضحك.. وكان مثل عم السر غير مشغول بالجانب المادي للمهنة.. وينهض طالب زبون من الكرسي ويقول: يا عم حمودة الدفع آخر الشهر، فيضحك الرجل ويقول: خليها بعد التخرج.. ولأنني قصصت شعري عنده عدة مرات بنظام الدفع المؤجل الى ما بعد التخرج فقد ظللت أسد ديوني بقص شعري في الصالون الذي أقامه ابنه عباس في الخرطوم بحري قرب السينما الوطنية لسنوات طويلة بعد دخولي الحياة العملية.. كان عم حمودة من النوع الذي يقص الشعر دقيقتين ثم يتوقف نصف ساعة ليحكي لك حكاية طريفة، وكانت معظم حكاياته عن وزراء ومسؤولين كبار في الدولة، كانوا يوما من زبائنه وحكى لنا كيف انه بعد ان استولى جعفر نميري على الحكم وكان زبونا عنده عندما كان طالبا في حنتوب الثانوية، دعاه نميري الى القصر الجمهوري وفي ختام لقاء الذكريات قال له حمودة: بقيت ريس يا جعفر شوف لينا شغلانة غير الحلاقة، فرد عليه نميري: نشوف.. فقال حمودة: بلاش لف ودوران! وظيفة ولو جاسوس، فكان جواب نميري: جاسوس بالذات ما حتنفع لأنك حتذيع أسرارنا في الجامعة.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version