شعرية المكان في (للحلم جناح واحد) لروضة الحاج – صورة

تمثل الشعرية الدراسة المنهجية التي تقوم على علم اللغة للأنظمة التي تنطوي عليها النصوص الأدبية, وتهدف لاكتشاف الأنساق الكامنة التي توجه القارئ إلى العلمية التي يتفهم بها أو بين هذه النفوس(1), وعليه فأن ((مسيرة هذا المصطلح قد تشابكت في تقلباتها بين دلالة تاريخية, وأخرى اشتقاقية, وثالثة توليدية مستحدثة))(2), ولكن أتساع ضفاف الشعرية جعل ((منافذها متعددة وأشتغالاتها تكاد تكون مختلفة من حيث زاوية النظر والاشتغال))(3), أما جان كوهن فقد بنى شعريته على (الإنزياح) وتتمحور نظريته حول الفرق بين الشعر والنثر من خلال ال?كل وليس المادة أي من خلال المعطيات اللغوية المصاغة وليس من خلال التصورات التي تعبر عن تلك المعطيات(4), ومهما يكن من أمر فأن تودوروف قد أحسن وأبلغ عندما وصف الشعرية بأنها مجموعة من الضوابط الجمالية التي تجعل العمل أدبيا(5).
إن علاقة الشاعرة روضة الحاج بالمكان هي علاقة انتماء, تنقسم على قسمين, الأول: علاقة انتماء جسدي, وهذه العلاقة واحدة من أهم وأول الروابط التي تصل الشخصية بفضائها(6) فمن خلالها يمكن تحديد علاقة الألفة والاغتراب مع المكان, فقوة انتماء شخصية ما إلى مكانها حتى وأن هجرت عنوة عنه, تعكس عمق الألفة التي تربط الشخصية بمكانها, ولعل أبرز تمظهر لهذا النوع أو القسم من العلاقة ما نجده في قصيدة ((الآن ينكسر القصيد)):
(( أأعود ؟؟؟
كيف تصور السودان دونك
آه ليلاي كيف ؟؟
يا حسن وجهك
مثل ((أم درمان)) خفت للطريق بشاشة
إن قيل في الركبان ضيف..))(7) 12116 وهذا واضح في تشكيل علاقة خاصة بين الشاعرة السودانية روضة الحاج ووطنها السودان, وبخاصة مدينة (أم درمان), من خلال رثاء الشاعرة لاستاذتها وصديقتها الشاعرة ليلى المغربي التي توفيت بحادث سير.
لكن روضة ترفرف بجناح حلمها الكبير فوق وطن أثيري تنتمي إليه بروحها, وهذا هو القسم الثاني من العلاقة المكانية, إن للوطن أثر في رفد تجربة الشاعر العربي بوصفه مكونا ثقافيا واجتماعيا متشعب الجذور, أسهم سلبا وإيجابا في صياغة وتشكيل ذات الشاعرة وتعميق تجربتها على الصعيدين الحياتي والإبداعي, وتبدو الشاعرة وكأنها قد ماهت بين ما معروف (بالوطن الصغير= الدولة العربية) و(الوطن الأكبر= الوطن العربي), حتى ليحسب متابع حياتها ودارس شعرها أنها شاعرة تنتمي للوطن العربي أكثر من انتمائها لبلد واحد من هذا الوطن, ويشي بذلك ?عرها وانتماؤها العجيب والخالد لهذه الأمة العربية ولهذا الوطن الكبير الذي يتسع قلب مهما كبر لاحتوائه, فهي مرة فلسطينية وأخرى عراقية وثالثة سورية وهكذا:
نقرأ في قصيدة (من وفاء إدريس ــ الأستشهادية الفلسطينية ــ إلى مؤتمر القمة العربية):
((وقبل أن توقّعوا
وقبل أن تفاوضوا
وقبل أن تقايضوا
وقبل أن تشاوروا.. تحاوروا.. تقرروا..
وقبل أن تصوروا البيان في ختامه الأخير
تقبلوا تحيتي وعاطر السلام!!
تقبلوا دمي جرى على الطريق حائرا غريب
تقبلوا مشاعري دفيئة كأنها الوطن
تقبلوا صراحتي
فعندما أيقنت أن ذلك الحزام بين سترتي وخطوتي
هو الثمن
دفعته !!)) ــ المجموعة ص17 ــ
وفي القصيدة نفسها تؤكد الشاعرة انتماءها للوطن العربي عندما تؤكد انتماءها للعراق:
(تتمتم الصباح والمساء
تعوذ بالرحمن ربها
من شر ما خلق
وقبل أن تفاوضوا
فلتشهدوا البكاء من بكاء حائط البراق
ولتسمعوا النخلات ينتحبن في العراق.
ــ ص20ــ
وتشتغل الشاعرة الحاج على جانب مهم من التشكيل البنيوي, وهو البنيوي المرجعي.
إن البنية هي الوسيط اللائق والمنطقي بين اللغة والنص الأدبي, لأن هذا الأخير هو عبارة عن كتلة لغوية مكتفية بقدراتها ومتجوهرة وشديد الالتحام بعضها ببعض(8) وليس بالضرورة أن تتسلح القصيدة بكم كبير أو هائل من المفردات, لتتمكن من خلال ذلك من تقييم الدلالات الكثيرة التي تحيل على عدد غير محدود من القراءات(9) بل على عكس ذلك فبإمكان أقل ما يمكن من المفردات التي تعتمد منهج الاقتصاد في اللغة تقول الكثير.
إذا كان من المفروض أن لكل بنية شعريتها الخاصة أو قوانينها, فأن(كمال أبو ديب) يشك في جدوى تحديد الشعرية على أساس الظاهرة المفردة المستقلة> كالإيقاع ويرى إلى أن الحل يمكن في البنية الكلية أيضا إن البنية تقوم على خاصيتين أساسيتين, بل يؤكد على ذلك وهما: الكلية والعلائقية (11) وتشكل المرجعيات (التاريخية ــ التراثية ــ الدينية.. الخ) جانبا مضيئا ومبدعا في شعر روضة الحاج وتجربتها الشعرية الكبيرة:
(وتصيح يا ((حطين)) يا((يرموك)) يا قدس العروج ويا صلاح الدين قم!
يا مسجدا أرسى قواعده عمر)) ــ ص73 ـــ ص74ــ
وتصنيف في العقيدة نفسها, وهي القصيدة التي تتشكل من تلاقح (الماضي المجيد) و(الحاضر المحاصر بالأسئلة):
((فما أغرت العيس حتى
بوخد يؤخرها أو ذميل
أما كانت الخيل والشمس والبيد تعرفهم يا محمد
كيف تعود فتنكرهم
ثم تطلب تأشيرة للدخول؟؟
أما كان ما كان ؟؟)) ـــ ص76 ــ
وإذا كانت علاقة الشاعرة بمكان هي علاقة صميمي, أي علاقة انتماء أصيل للوطن, فأن هذه العلاقة قد تكون في أحيان قليلة ( علاقة محايدة) لا تشكل انتماء جذريا يشع بالألفة والالتحام الروحي:
(( كم الساعة في كوكب الأرض؟؟؟ قاتلة كل هذي الصباحات في جب روحي))
ومسهبة في التثاؤب والأمنيات
والحبال التي علقت كاذبات
والذي قلته لم يكن صادقا
فاخدعي كيفما شئت آيتها الذكريات)) ــ ص37 ــ
وتشتغل قصائد روضة أيضا على نوع آخر من المكان, هو (المكان الذي يمنح علاقة التنافر) ويفرز غالبا عن طريق اتصال الغرباء بالمكان, إذ يبدو المكان بالنسبة إليهم متحفا يتجولون فيه, مصورين الأشياء الكائنة فيه, ولا تتجاوز اهتماماتهم سوى السطح(12) أن آماكن الإقامة المؤقتة هي تلك الأماكن التي مرت لها الشخصيات مروراً سريعاً أو عاشت فيها الفترات القليلة من الزمن, وتظل العلاقة بين هذه الأماكن وساكنيها علاقة تُحكمها الضرورة الحياتية والحاجة النفسانية التي قد تكون مرتبطة بالآخر كسبب لوجودها:
(( كنت وحدي
مثل كل الغرباء
مثل كل العابرين على خطوط الموت من غير هوية
مثل كل التعساء
يحملون حقائب الإحباط
والخيبة
واللا وجه
يمشون على ارض أبتهم
ويصرون على الموت الحياة)) ــ ص63 ــ
وتتشكل صورة الغربة في المكان رويدا, فتقرأ في القصيدة نفسها:
(( كي ألاقيك على خط جديد غير خط الاستواء !!
ثم من بين ركام الصمت في قبري
ومن بين حريق الصبر من صبري
ومن بيني كما الفينيق جئت
صادقا مثل ضميري
مثل أمي طيبا ومنحازا لكل الأنقياء))
ويمكن ملاحظه نوع آخر من المكان في شعر روضة الحاج, وهو (المكان: الواقعي/الثوري/الملتهب) وهو ما يجعل الشاعر في صدارة قائمه الشاعرات العروبيات اللواتي نذرن إبداعهن الأدبي لكشف مصائب ومصاعب ألامه وتحليلها ومعالجتها شعريا, ولاشك إن قلة من الشاعرات العربيات في عصرنا العجيب هذا يمكن إن نطلق عليهن شاعرات الصبح الثائر على كل ما هو خطأ سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
تنتمي روضه بروحها واحاسيسها لكل شبر في هذا الوطن العربي, تتألم إذا بكى طفل في العراق, وتبكي شعرا على محمد الدرة, ولا تكتفي بالحاضر, بل تذهب غالى أعماق التاريخ, تصرخ وتستصرخ, ومن ثم تعود لتصرخ بوجوهنا:
(( وطرقت يا خنساء بابك مرة أخرى
وألقيت السلام
ردي علي تحيتي
قولي
فأني لم اعد اقوى على نار الكلام
فلقد بكيت خنساء صخرا واحدا
وألان بكي إلف صخر كل عام!!
حزني على بغداد أم
حزني على بيروت أم
حزني على الجولان أم
حزني على الخرطوم أم
حزن على القدس المضرج بالنجيع
وقبلة البيت الحرام!!..))ــص59
إن شاعرتنا مهمومة بشعرنة الأمكنة, سواء كانت واقعية من صميم الحاضر, أم أماكن متجذرة في العمق الإنساني من رحاب التاريخ الناصع, وكما هي مهمومة بالمكان العربي, كذلك هي مهمومة بالشعرية, وبإمكاننا ان نخرج من نصوصها عددا من الشعريات, حتى ليضيع الواقع بشعريتها, فتذهب إلى أماكن ذات عوالم ميتافيزيقية, عوالم ذوات آفاق أوسع وأجمل من أنفسنا الضيقة وأوبئتنا المزمنة(13), هذه الشاعرة تكتب نصوصا مميزة, فالمكان عندها كائن حي ينبض بالشعرية المأهولة بالأنسنة والقدرة على إعادة صنع الحياة بخلق جديد مليء بالإشارات القادرة على ش?رنة المكان.
كمال عبد الرحمن العراق – الموصل
الهوامش والإحالات والمصادر والمراجع
1.دراسة تحليلية لشعرية الوصف في قصص جمال نوري, د.نبهان حسون السعدون, (كتاب نقدي مشترك), دار الحوار, سورية, ط1, 2011, ص31
2. المصطلح النقدي, عبد السلام المسدي, مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله للنشر, تونس, 1994, ص87
3. شعرية تودوروف, عثمان الميلود, عيون المقالات, ط1, الدار البيضاء, 1990, ص16
4. ينظر: بنية اللغة الشعرية, جان كوهن, ت: محمد الولي وزميلة, دار توبقال للنشر, الدار البيضاء, ط1, 1986,ص28
5.الشعرية, تزفيتان تودوروق, ت: شكري المبخوث وزميلة, دار توبقال للنشر, المغرب, 1990, ص24.
6. قال الراوي: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية, سعيد يقطين, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء,ط15, 1997, ص237.
7. للحلم جناح واحد, شعر, روضة الحاج, مؤسسة الصالحاني, دمشق, ط3, 2007, ص31.
8.بنية القصيدة في شعر عبد القادر الحصني, وعد عصمان الجبوري, رسالة ماجستير, كلية الآداب, الجامعة الحرة في نينوى, 2010, ص3.
9.تطور الشعر العربي الحديث في منطقة الخليج, ماهر حسن, دار الشؤون الثقافية, بغداد, 1998, ص217.
10. في الشعرية, د.كمال أبو ديب, مؤسسة الأبحاث العربية, ط1, بيروت, 1987, ص13.
11. م.ن: ص14.
12. شعرية المكان في الرواية الجديدة, الخطاب الروائي لادوارد الخراط نموذجا, خالد حسين حسين, سلسلة كتب الرياض(82), مؤسسة اليمامة الصحفية,2000,ص111ــص112
13. كلام المرايا (دراسات نقدية في الشعر والقصة والمسرح والرواية), كمال عبد الرحمن, تربية نينوى ــ النشاط المدرسي (العراق ــ الموصل), 2011, ص
الصحافة
كمال عبد الرحمن ناقد من العراق
Exit mobile version