سبحانه وتعالى الناس عليها، رغم أن مجتمعاتنا الشرقية عموما تحرّمه على الرجال،
في حين تبيح للنساء اجتراج جريرة (البكاء بإهمال) دون عقاب أو مساءلة !
من المعلوم أن (الجعّير) هو خير وسيلة للتخفيف من الضغوط العصبية، لذلك نجد
النساء متصالحات مع انفسهن (في الحتة دي)، وأكثر استقرارا من الناحية النفسية،
وذلك لأن البكاء (سبّة بلا سبب) هو هوايتهن المحببة، ناهيك عن أن يحتاجن إليه
للتنفيس عن (المغايس)، بينما لا يجد الرجال متنفس أكثر فعالية من حرق الصحة
والاعصاب مع (دخاخين السجائر)، وإذا زادت الضغوط عن حد الاحتمال فـ في
(ركوب الصواني) خير معين لهؤلاء المساكين .. بالذمة في زول شاف ليهو مرة
مستلمة ليها صينية ؟!!
ضمن منوعاتها نشرت (الراي العام) خبر طريف وغريب، يحكي عن مسابقة للبكاء
اقيمت في احدي الولايات الهندية، وكانت أغلب المشاركات فيها من كبيرات السن ..
(بكا العجائز ليهو ركايز) !!
متن خبر مسابقة الدموع يحكي عن الحافز الذي وفّرته الهيئة المنظمة للمشتركات
لمساعدتهن في استدرار الدموع، فقد بدأت المسابقة ببث موسيقى محزنة خفيفة
واشتدت لتشتد معها دموع الباكيات، وفي نهاية (المندبة) توّجت إحداى البكّايات
(ملكة الدموع) .. لو سألوني، لافتيت بعدم حوجة النساء لمحفّزات البكاء فكل ما
يحتاجنه لإهاجة الاستعبار هو استرجاع (المغايس) و(الحزن القديم)، والتأمل في
حكمة (أندب حظي أم آمالي) فتهطل الدموع جدّاول ..
سهولة استدعاء الدموع عند النساء، ربما جلبت لهن تهمة (التمساحية)، خاصة اذا ما
استعانن بها على قضاء حوائجهن عند الرجال، فكما نعلم أن دموع المرأة هي أقوى
اسلحتها التي تجندل بها الصناديد، كذلك ساعدت تلك الميزة في بعض المجتمعات
الشرقية على الاكتساب من ورائها كمهنة (الندّابة) وهي المرأة التي تستأجر لـ
(تسخين البكا) عندما يموت أحد علية القوم، وقد لا يحتاج أهل الميت لاستدعائها فما
أن تسمع بخبر وفاة حتى تسرع للمأتم وتبدأ في استلام الموضوع ..
أذكر أن أحد زملائي السودانيين بالكلية توفى بمكان اقامته، نتيجة استنشاقة لغاز
السخّان اثناء استحمامه .. انتشر الخبر بيننا بسرعة فتجمع الكثير من الطلّاب
السودانيين اسفل المبنى الذي يقيم فيه، في انتظار حزين موشح بالدموع والدعوات
لانتهاء الشرطة من معاينة المكان ونقل الجثة للمشرحة .. وما أن خرج رجال
الاسعاف بالنقالة حتى صكّت اذاننا صرخة منكرة شقّت الجموع ورددت صداها
جنبات المباني:
يا لهوييييييي يا خرابيييييي عليك وعلي شبابك يا ضنايا !!
فأسرع أحد الزملاء لاسكات وزجر المرأة (الندّابة) التي اغرتها الجموع الحزينة
بنوال حصيلة طيبة من النقود، مقابل تسخين سوق أحزانهم على الفقد الاليم وبشتنة
الرحيل في الغربة .. المسكينة لم تكن تعلم أننا في الخوّة لا نتاجر بالاحزان وحتى ان شئنا فلا نملك فاتورة النحيب فكلنا في فلس التلمذة سواء !! تجدد الذكرى (لذي شجن)، أيضا من أقوى مستدعيات البكاء، كلما عايشت المرأة أحزان من اصابهم نفس مصابها، فبعد عام على وفاة أبي التي كانت في رمضان، توفي أحد جيراني في الحي الذي انتقلت إليه حديثا .. رافقت جاراتي بعد خروجنا من التراويح للعزاء بـ (حق الجوار) لعدم معرفتي بأهل الميت .. دخلت معهن ووقفت على جنب اراقب بكاء بنات المتوفى ونواحهن بـ (يااا حليلك يا أبوي) .. بعدها لم انتبه لنفسي إلا وجارتي التي كنّا نقيم بشقة في منزلها، تقف فوق رأسي وتصيح بعد أن وجدتني أجلس على غطاء (السبتك تانك) وأبكي بحرقة أشد من أهل الوجعة: سجمي يا منى مالك بتبكي كده ؟ انتي عمي (…) ببقى ليك ؟ خجلت أن أخبرها بعدم معرفتي حتى لاسم الميت فهززت رأسي بـ (لا لا)، ثم اضفت وسط شهقاتي (بس اتذكّرتا أبوي)، فما كان منها إلا أن انتهرتني وطلبت مني الاستغفار ثم سحبتني من يدعي وعادت بي للبيت، وعيناي لا تتبينان الطريق من فرط الدموع. تظل المفارقة في أن الرجل والمرأة يبكيان معا عند الخروج من رحم الأم، ومن لم يبك منهم يضرب على ظهره فيحتج باكيا على اسقباله بالضرب على القفا بـ (أم دلدوم) .. نأتي للدنيا ونحن نبكي والناس من حولنا يضحكون، ونأمل في رحمة الله بأن نغادرها ونحن نضحك والناس من حولنا يبكون، وتلك أمنية تحتاج أن نكرّس كل العمر لتحقيقها خوفا من يكون حصاد اعمارنا كالحال الذي وصفه (التجاني سعيد) يوم قال: أصلو العمر كان دربا مشيتو كسيح كان غرسا سقيتوا بكاء وقبضتا الريح
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com