غلطة حياتي
بلادي وإن جارت علىّ عزيزة وأهلها وإن ضنوا علىّ كرام … هكذا ابتدر مهند حديثه من مكان غربته وأضاف : أنا مغترب منذ عامين، كرهت الاغتراب ، وأخير بألف مرة الواحد يعيش فقير في السودان ولا يغترب ، وأنا في الغربة فقدت والديّ وأنا بعيد عنهما ، ومن الناحية النفسية يعاني الشخص نفسيا وطيلة ساعات الليل والنهار يفكر في أهله..( كيف عايشين كيف قاعدين شايل همهم). واشعر أنني ارتكبت خطأ كبيراً .
ضياع نفسي
أما عمر من منطقة غرب دارفور فقال : اعتقد أن الاغتراب عامل نفسي ليس إلا ، واضاف : أنا اسمي الاغتراب بالضياع حتى وإن لم يكن ضياعاً مادياً فهنالك ضياع نفسي واكتساب عادات وتقاليد أخرى لا تتوافق مع قيمنا وتقاليدنا السودانية .. نعم حالنا سيئ وفي الحضيض وهل هذا سبب كافٍ للاغتراب ؟ بإمكان كل شاب البدء والسعي وراء تحقيق حلمه بدون يأس .. وما الفائدة إذا سافرت واشتغلت جرسون في أحد المطاعم علماً بأن نفس هذه الوظيفة متوافرة في موطني ! أم هي مباحه في الخارج وحرام في الداخل؟ ! ويواصل عمر بقوله : أنا خريج جامعي ومن حقي أن اتوظف ومن حقي أن أبحث عن مصدر دخل آخر لتحسين وضعي الاقتصادي وهذا ما فعلته ، حيث قمت بعمل مشروع إضافي عبارة عن نادي مشاهدة والحمد لله أنا ضد أني أسافر للخرطوم إلا لظروف طارئة لأنني لا اجد الراحة والسكينة إلا في موطني السودان ومسقط رأسي( الجنينة) الحبيبة ناهيك أن اكون خارج الوطن .
صعوبة التأقلم
وفي ذات السياق تحدثا لنا محمد عبدالمنعم وقال : منذ نشأتي وجدت نفسي في الغربة وعشت بها أكثر من عشرين عاماً متواصلة وطوال هذه المدة كانت عبارة عن سجن وعدم استقرار وضياع للعمر ، واضاف : في الغربة ينظر لنا المجتمع الذي تغربنا فيه بأننا ما جئنا إلا لنجمع المال منهم ،وتحس بأنك ذليل ولا تخرج إلا ومعك الإقامة … وقال متحسراً : عندما عدت للسودان وجدتُ صعوبة بالغة في التأقلم والتعايش مع المجتمع لأن كل شيء مختلف فنحن تعلمنا تاريخ وثقافة وتراث بلد آخر تختلف عن ثقافتنا السودانية وأنا الآن مغترب داخل وطني وبلدي !! وشبح الغربة يلازمني في أي مكان …
مداخلة : إذا وجدت فرصة للعمل خارج السودان
لا لن أذهب خارج السودان ولو أعطوني مليارات حتى لا أرتكب نفس خطأ والدي .
ضد الاغتراب
أما أحمد محمد سالم فقال : أنا لست ضد الغربة والاغتراب لأن لكلٍ أسبابه القوية ومن أهم أسباب اغتراب الشباب في نظري قلة فرص العمل او بالأحرى ندرة الوظائف بالرغم من اننا في السودان نتمتع بوطن واسع به العديد من الموارد ، ومرحلة الشباب هي مرحلة قوة وحماس وحيوية خصوصاً أن الشاب بعد تخرجه في الجامعة يكون مهيأ للعمل ، وعندما لا يجد فرصة للعمل يصاب بنوع من الإحباط واليأس حيث يتحول الوطن الكبير الواسع إلى سجن صغير « حبس انفرادي» مما يدفعه للقيام بأي شيء للخروج من هذا السجن ، وأهم سبب أيضاً أن الكبار والكهول لا يفسحون مجال العمل للشباب بحكم أنهم غير مسئولين وليست لديهم خبرة والواجب علينا نحن كشباب أن نستفيد من خبراتهم لنمزجها بحماسنا .
– سألته : أنت شخصياً هل تود أن تغترب ؟
– لا.. ولن أخرج من وطني السودان إلا للعمرة والحج واكتساب معارف وعلوم جديدة ، لأن المتعة الموجودة في السودان لا تضاهيها أية سعادة خارج الوطن . وللغربة مكتسبات و إيجابيات اهمها اكتساب المعارف وعلوم جديدة مما يزيد الخبرة الحياتية والسعي لزيادة الدخل المعيشي
وخلق نوع من تبادل المعارف والثقافات بين الشعوب المختلفة .
ومن سوءاتها – التأثر بعادات وتقاليد مختلفة عن عاداتنا مما ينشئ صراعاً بين العادات .
مرض الغربة
أما أبو محمد فقال إن معظم الناس يظنون أن أهم سبب للإغتراب هو تحسين الوضع الاقتصادي وحده .. ولكن إذا نظرنا إلى المغتربين بنظرة حقيقية سنجد أن هناك مغتربين وضعهم الاقتصادي متميز جداً ومع ذلك هم مغتربون ، وأنا أعتقد أن هناك أموراً أخرى غير الوضع الإقتصادي تدعو الشباب للغربة منها :
– المشاكل الإجتماعية والأسرية وحب الجلوس منفرداً وانفصام الشخصية وغيرها .
– الوضع النفسي للفرد بحيث يكون غير متوافق مع البيئة التي ينتمي إليها وينظر له المجتمع بأنه فاشل .
– الغزو الثقافي والإعجاب بالثقافات الخارجية حيث يفكر بعض الشباب بالاغتراب والهجرة من أجل الحريات المنفتحة والتحرر من المسئولية وإنكار عاداته التي اكتسبها من بيئته .
واختتم أبو محمد حديثه قائلاً : أنا شخصياً أعتبر الغربة مرضاً وسماً بطيئاً ومعظم المغتربين يعتبرون الغربة غاية نهائية في تحقيق أهدافهم ولا توجد لديهم نية للرجوع لحضن الوطن .
الحل الوحيد
أما أبو القاسم جمعة ? خريج ? فقال إن الغربة أصبحت بالنسبة له هي الحل الوحيد الموجود أمامه ، وعن فقد الاهل والأحباب قال : أنا الآن معهم وشايف حاجتهم للمال وما قادر أساعدهم ، لكن إذا اغتربت أستطيع مساعدتهم .
مأساة إبراهيم
إبراهيم علي يحكي مأساته وهو في بلد الغربة ويقول : تخرجت من التدريب المهني واستأجرت ورشة ، وبعد اقل من عام إذا بالضرائب والعوائد والزكاة تنهال علىَّ !! وما كان أمامي غير ترك الورشة … ولملمت شهادتي وعملت بعدها سائق ركشة ووفرت ثمن التذكرة وسافرت إلى دول الخليج والحمد لله مستقر … واخيرا الفقر في الوطن غربة … ! والغني في الغربة وطن … ! .
اغتراب بدون تخطيط
الأستاذ عبدالرحمن المكاوي ? مغترب عاد للوطن – قال متأسفاً : إن معظم السودانيين لا يتم اغترابهم عن دراسة وتخطيط وبذلك يفقدون ما تركوه في بلدهم ولا يستطيعون أن يدركوا ما سافروا من أجله … وعن اغترابه قال : أنا شخصياً قبل أن أغترب وضعت خطة بأن لا تتجاوز الغربة خمس سنين ولكن هنالك ظروفاً جعلتني أزيدها سنتين ، وعدت بعدها وتركت من سبقوني في الغربة بعشرات السنين مكبلين بوابل من الديون ومشكلات معقدة مع الجهات التي يعملون لديها ، والحمد لله استفدت كثيرا من الغربة وأعظم فائدة هي حسن التخطيط ومراعاة الاستغلال الأمثل للوقت .
صراع الهوية
وكذلك التقت (الرأي العام) بالأستاذ عمرو ابراهيم مصطفى الباحث في علم النفس والاجتماع الذي قال : الاغتراب بمفهومه العام هو البعد عن الاسرة وبهذا المفهوم يمكن ان يكون داخل الوطن او خارجه ، والمتداول عند الناس هو الاغتراب الخارجي وله عدة اسباب اهمها : تحسين الوضع المعيشي والوضع الاكاديمي وفي احايين كثيرة يكون هروباً من الواقع وبدون اي هدف ، والانسان بطبعه يحب التغيير وهنالك بعض الشخصيات متقلبة المزاج ولا تستطيع البقاء على نمط واحد.
واهم سلبيات الاغتراب في رأي الأستاذ عمرو هو صراع الهوية والثقافات وكيفية التأقلم معها. ومن الناحية النفسية قال ان المغترب يحس بفقدان اشياء كثيرة وينتابه قلق واكتئاب وإحباط نتيجة لصعوبة التكيف مع البيئة التي يعيش بها وشعور بعدم الرضى .
من المحرر
حتى شعراء بلادي أدلوا بدلوهم في ظاهرة الاغتراب ومن القصائد المعبرة (لسان الحال) للشاعر المرهف حاتم حسن الدابي وتحكي القصة معاناة زوجة مغترب تستجديه أن يعود وتذكره بالخطر الذي يُحدق بأبنائه وكل ذلك في قمة الادب مع زوجها كما قالت: ( وريتك الحاصل على لا فيهو ثورة ولا غضب ) ولهذه القصيدة رد جميل صوره احد الشعراء لتكملة القصة بأن الزوج استلم الرسالة وقرأ محتواها فرد على زوجته برسالة أخرى يقول مطلعها: (أنا ما كنت داير الاغتراب لكني مجبور ابتعدت … ) .
[/JUSTIFY]
الراي العام – تحقيق: عمر عبد السيد إبراهيم