[JUSTIFY]
حتى لا ينسى الناس تسلسل بعض الترتيبات والإجراءات الإقتصادية السالبة التي بدأت تظهر آثارها الكارثية الآن على الأسواق وعلى مجمل العملية الإقتصادية، فإن فوضى الأسعار التي تضرب الأسواق الآن ترجع أسبابها لعدة إجراءات وعوامل يعتبر أولها هو إنسداد الأفق وتحجّر عقول المجموعات التي ظلت تدير المال والإقتصاد منذ مرحلة ما بعد الوزير العبقري عبد الرحيم حمدي الذي اسهم رحيله من وزارة المالية في إرباك مجمل العملية الإقتصادية ،حيث أن هذه المجموعات ظلت تدير الإقتصاد لفترات طويلة بنظريات عقيمة منغلقة فاقدة لروح الابتكار والمبادرة حولت إقتصاد السودان إلى (إقتصاد الجبايات والرسوم) بدرجة ممتاز ، بل أن هذه المجموعات وبسبب إنغلاقها وإنعدام روح المبادرة والابتكار لديها لم تستفد من الموارد الهائلة التي وفرها البترول قبل إنفصال الجنوب، حيث كانت الفرصة مواتية جداً لإحداث إنقلاب إقتصادي في طريقة التفكير وفي طريقة مناهج إدارة الإقتصاد كانا كفيلين بتفجير الإمكانات السودانية الإقتصادية الهائلة ، إلا أنه وعلى النقيض من ذلك فإن هذه المجموعات المنغلقة والمتكلسة لم تتورع في إدارة الإقتصاد عبر ذات الطرق التقليدية العقيمة التي كانت سائدة قبل دخول موارد البترول، وهو الأمر الذي اسهم في إمتصاص وإزهاق كل موارد البترول الضخمة في منصرفات غير حيوية وفي مجالات غير مجدية لتزداد عثرة الإقتصاد ويزداد طينه بلة ، وأنا أعتبر أن ضريبة القيمة المضافة التي تزامن تطبيقها مع دخول موارد البترول كانت هي من أكبر الكوارث التي حلت بالإقتصاد السوداني والتي ربما يكون قد تم توريط السودان فيها (بفعل فاعل) وابتلعها بعض موظفي المالية والضرائب (عمداً أو سهواً) لأن الذين نظروا لتنفيذ (ضريبة القيمة) مع بداية دخول موارد البترول كانوا هم أول من وجه ضربة قاضية للإقتصاد السوداني الذي كان قبل هذه الضريبة يدار بصورة جيدة حققت إنجازات معتبرة دون أن تكون موارد البترول جزءاً من موارد الميزانية، بل إن السودان نفذ نهضة تنموية كبرى في عدد من المجالات قبل دخول البترول ، ولذلك كان من المفترض لو كان هناك (أفق جديد) وأفكار حيوية كان من المفترض أن يترك الإقتصاد يسير سيره الطبيعي وفق آلياته القديمة ووفق سياساته الضريبية المنفذة قبل تطبيق هذه (الضريبة الكارثة). ثم يتم توجيه موارد البترول عبر ميزانية تنمية منفصلة إلى (مجالات مختارة) ذات تأثير إيجابي سريع تعمل على تطوير موارد الإقتصاد المُدرة للعملات الصعبة تبدأ بتقوية بنيات الصادر ومن ثم إقامة عدد من الصناعات المساعدة في مجال الصادر ،وذلك لدفع وتقوية عدد كبير من سلع الصادر السودانية ذات الميزة التنافسية الجيدة في الأسواق العالمية والإقليمية ، ولكن المؤسف أن القيمة المضافة .ورغم المنطق التنظيري الذي صاحب تنفيذها لم تتمكن من سد الفجوة التي تركتها (الضرائب الأخرى الملغاة) وهو ما دفع وزارة المالية لسد تلك الفجوة (بموارد البترول) التي نزلت برداً وسلاماً على عقول مُستسهلي الحلول ، كما أن ضريبة القيمة المضافة التي كان مؤملاً أن تكون سبباً في منع التقاطعات الضريبية وتوحيد (العبء الضريبي) الواقع على السلع لم تتمكن ضريبة القيمة المضافة وبفعل الفوضى الحادثة من جراء السياسات المالية في الولايات والمحليات ،لم تتمكن من كبح جماح كل الرسوم والجبايات المتقاطعة التي ظلت تلهب ظهر كل المنتجات والسلع السودانية بما فيها سلع الصادر التي فقدت إمكانية المنافسة عالمياً بسبب إرتفاع أسعارها ، هذا بالإضافة إلى أن ضريبة القيمة أصبحت تؤخذ على كل المستويات بدءاً من المورد وتاجر الإجمالي وصولاً إلى المستهلك النهائي ، ولذلك فإن أول عمليات الإصلاح الإقتصادي التي ينبغي أن يتم إتخاذها بصورة عاجلة هو إلغاء هذه الضريبة ومن ثم مراجعة كل السياسات الضريبية.
كما يجب ألا ينسى الناس أن واحداً من أكبر مسببات فوضى الأسعار الحادثة الآن هي السياسات الخاطئة التي إتخذها الدكتور صابر محمد الحسن في غفلة من وزارة المالية قبل مغادرته لبنك السودان ،وهي (رفع سعر الدولار الحسابي) الذي كانت وبالاً على أسعار الدولار في السوق الموازي ،ووبالاً على أسعار السلع الواردة. ولذلك فإن إلغاء هذه القرارات والرجوع إلى أسعار الدولار الحسابي التي كانت سائدة قبل هذه الزيادات تعتبر واحدة من أهم القرارات الواجبة لكبح جماح إنفلات الأسعار الحادث الآن في الأسواق ، ولذلك فإن إصلاح الإقتصاد وبالتالي إصلاح الأسواق وإعادة توازن الأسعار يتطلب مراجعة شاملة لكل الوسائل والأدوات والمناهج وطرق التفكير التي يدار بها الإقتصاد السوداني للخروج به من ( ضيق الجبايات)وسياسة فرض الرسوم التي تستسهلها وزارة المالية إلى (سعة الصادرات) وسياسة الإنفتاح التي ينبغي أن تعمل على تشجيع الإستثمار الداخلي والخارجي بعيداً عن سياسات التعجيز والرسوم الباهظة ومعوقات الإستثمار التي تمارس الآن تجاه المستثمرين المحليين والأجانب.
وحتى تحدث هذه المراجعة الشاملة التي قد تتطلب وقتاً قد لا يحتمله إنفلات الأسعار الحادث الآن ،لا بد من سياسات عاجلة في مجال السلع المعيشية التي تؤثر بصورة مباشرة على معاش الناس ، فهذه السلع ينبغي أن توجه نحوها سياسة صارمة تبدأ بإلغاء كل الرسوم والجبايات والضرائب المفروضة عليها إتحادياً وولائياً إلغاءً كلياً لا يقبل (التجزئة) لأن الحكومة التي تريد أن تلقي باللوم على التجار وجشعهم ينبغي أن تبدأ هي بنفسها حيث لا يعقل أن (تتكسب مصلحة الضرائب وإدارات الحكم المحلي في الولايات) من قوت الشعب ، وبعد أن تفعل الحكومة هذه الإجراءات الصارمة ينبغي أن تقوم الحكومة بخطوة أخرى غاية في الأهمية وهي ضرب كل معاقل (السماسرة والوسطاء) عبر قرار عاجل يلزم شركات الإنتاج الغذائي بالبيع المباشر لتجار التجزئة خاصة شركات اللحوم والدواجن ، لأنه لو ضربنا مثلاً بأسعار الفراخ التي تباع الآن في البقالات بسعر (19 جنيه) للكيلو فإنها تخرج من الشركات المنتجة بسعر (8 جنيه للكيلو) وكل هذه الزيادة الهائلة في السعر تسأل عنها مصلحة الضرائب والجبايات المحلية ومن بعد ذلك يسأل عنها أرتال السماسرة الوسطاء الذين يحتكرون توزيع الفراخ وبعض السلع الغذائية وبقرارات حكومية في بعض الحالات، ولذلك فإن الخطوة التي إتخذتها ولاية الخرطوم والحكومة المركزية بإلغاء بعض الضرائب والرسوم على بعض السلع الحيوية سوف لن تكون خطوة ناجحة إذا لم يواكبها قرار آخر بإلغاء السماسرة والوسطاء وبعض مؤسسات الدولة التي تحتكر وتتكسب في توزيع بعض السلع الغذائية. [/JUSTIFY]
الراي العام – عبدالهادي عبد الباسط