بين (التقليد) والتجديد…الدلوكة فن يعود من جديد

[JUSTIFY]بلا استثناء , قدمت الأجهزة الإعلامية السودانية خلال برمجة عيد الأضحى المنصرم جلسات غناء نسائية بالدلوكة , وكانت قد بدأتها قناة النيل الأزرق قبل نحو عامين ثم جالت هذه الدلوكة بين بقية القنوات الأخرى , لكن الكثافة لظهور أغنيات (البنات) والسيرة عبر الدلوكة شكل في مجمله ظاهرة يجب النظر اليها عن قرب , ومعرفة عما اذا كان الأمر ظاهرة او موضة ينتهي تأثيرها بانتهاء الموسم , ام هي شئ مدروس ينطلق من منطلق العلم والتأصيل لإحياء التراث السوداني الذي شارف الاندثار تحت وطأة التحديث والعولمة.
محاكاة
كل الاحتمالات مطروحة لتفسير الأمر , وان كان أكبرها للمتلقي (محاكاة), كنوع من الافتراض الذي يعزز تشابه العقليات المنتجة للعمل الإعلامي , ورغم انه احتمال غير مستبعد , الا ان الجانب الفني للدلوكة واحتمال إعادة سيطرتها على الساحة والوجدان السوداني من جديد ومدى تقبل المجتمع له كان هو المبحث الرئيسي, مع اخذ وجهة نظر قناة النيل الأزرق بوصفها صاحبة السبق في الأمر ومرتكزات تجربتها , الشفيع عبد العزيز مدير البرامج بالقناة , قال ان غرضهم كان إحياء الدلوكة عبر تقديم نماذج غنائية لها علاقة بزمان ومكان معينين , ووقع الاختيار على هذا الشكل من الغناء لأثره في التطريب النفسي أقوى من أشكال الغناء الأخرى لعفويته, وانطلاقا من هذه الفكرة كان البرنامج , وكان له وقعه لشكله الجديد الذي يضم عدد من الفنانات يتغنين بتلقائية لكن استنساخ المادة في أكثر من قناة جعلها باهته وأضاعت فكرتها الأساسية , مقرا أنها ليست حكرا عليهم لكنها كان يمكن ان تأتي في أشكال مختلفة بخلاف ما قدمته قناتهم , والشكل المختلف هذا هو ما حاول الباحث محمد حسن الجقر تحت مسمى (إيقاعات سودانية), ويرى الجقر ان التركيبة الاجتماعية لمجتمع السودان تطرب لهذا الشكل من الغناء, ويرها كذلك مخلص للمجتمع من السيرة المصرية والإيقاعات الدخيلة , وقال ان أغنيات السيرة والدلوكة بجانب شهرة الجعليين بها هي إيقاع قديم حسب الجغرافيا واللغة لذلك هي ليست موضة يمكن ان تنتهي وانما أصالة يمكن الرجوع إليها.
صحوة
الفنانة حنان بلوبلو , التي بنت شهرتها على هذا الشكل من الغناء وأطربت به جماهيرها , ترى ان غنيات التراث او غناء (البنات) لا يمكن ان ينتهي , وان غابت عنه الكثير من مظاهر السيرة القديمة (السيرة بالأرجل والحصين) وتتبعها أغنيات عريسنا سار البحر , وغيرها من المظاهر , وترى بلوبلو في رجعة الدلوكة مؤشرا ايجابيا لرجوع بقيه الأشياء الجميلة المصاحبة لغناء الدلوكة والسيرة , وللغرابة يرى البعض في الفنانة سمية حسن التي كونت فرقة دلوكة (بت السودان), وهي التي شاركت بالغناء في مهرجان الحلم العربي قد نزلت درجة عما كانت عليه , الا ان سمية لها رأي آخر في الأمر وتقول: ان الدلوكة بالنسبة لها صعود وليست هبوطا لان التراث الملئ بالقيم الموجهة للسلوك جدير بالمتابعة , لذلك الرجوع إليه أمر ضروري فهو يحث المرأة على تمجيد الرجل وتحثه كذلك على العمل الدؤوب وما دامت هي رسالته يكون طلوع للقيم وليس نزولا, اما كثرة انتشاره في الآونة الأخيرة , فهي تفترض فيه تصحيح مفاهيم كثيرة وبالتالي هي صحوة جميلة وليست موضة , وأضافت ان الدلوكة إيقاع ساحر وهي شخصيا تحبه وتطرب له لذلك تقدمه بشكله القديم بمعاونة بعض أدوات العصر , إضافة إلى انه شكل بدايتها الفنية , حيث كانت أولى خطواتها نحو الفن بغناء البنات والدلوكة ورقيص العروس ,وبسبب غيابه لعدة سنوات تفترض كذلك استمراريته وسهولة هضمه وهذا ما جعلها تفكر في إحيائه عبر فرقة متخصصة تضم كل الإيقاعات السودانية , إضافة للعطور وكل طقوس العرس والحنة.
*سوق العمل
بجانب كل ما ذكر هناك عدد من الفنانين شكلت أغنيات السيرة والدلوكة بداية لهم وشكلت لهم كذلك (استايل) وبصمة خاصة لهم , ومع ذلك ركبوا موجة التحديث الموسيقي وجانبوها حينا ثم عادوا اليها ومن بين هؤلاء الفنان محجوب كبوشية الذي بدأ بها تم اتجه للاوركسترا وعاد (للشتم) وايقاعات الدلوكة , وتجربته مع الدلوكة تشبه الى حد ما ما يحدث حاليا , والذي استبعد لنا ان يكون (فورة وبتروح) , لان أغنيات التراث تلك ومن وجهة نظره لها مئات السنين , وتتكلم عن الانسان السوداني كرمه, أصالته , شهامته , وكل صفاته السمحة, لذلك هو لا يستغرب اتجاه القنوات الفضائية بكلياتها نحوه , وعن تجربته شخصيا قال انه بدا به ثم اتجه لتحديثه عبر الآلات وإدخال إضافات عليه بالتجديد كذلك في أدائه , وقال حاليا توجد أكثر من عشر فرق دلوكة تسيطر على سوق العمل , بملاحظة فناني الموسيقى الحديثة , قال ان حتى أغنياته الخاصة شبيهة بأغنيات التراث وان كل من كتب قصيده تشبه أسلوبه يمده بها , لذلك يرى في عودة الدلوكة محاولة لمحاربة الغناء الهابط , ويرها كذلك أغنيات صالحة لمخاطبة كل الأجيال وحتى أجيال قادمة .
*ظاهره مهمة
الباحث في التراث إبراهيم البزعي يرى في الامر ظاهرة أخذت جانبا من اهتمامه , فبحسب ما سمع ان ( الدنقر والدلوكة) أصبحت حتى في الحدائق العامة كعمل استعراضي بمصاحبة الجرتق وتقف خلفه نساء دارسات , ويري ان هناك وعيا تولد باستنطاق هذه الآلات الشعبية , لان الموسيقيين أنفسهم في مشاركاتهم الخارجية ان جاءت بمصاحبة(اوكورديون) مثلا لن يكون له تأثيره وسط الحرفية والتقدم الخارجي لكن الآلات الشعبية السودانية بالتأكيد يكون لها تأثيرها ( والدلوكة لو ما جايبة حقها ما كان وجدت هذا الإقبال ), وقال علي ما يبدو له أنها ليست غناء من اجل (النقطة) فقط وإنما هي طقس متكامل بجبنته وبخوره واستعراضه وونسته تشكل مشهدا ثقافيا سودانيا .
*خارج الزمن
وللمفارقة , توفر في الباحث النفسي والمجتمعي د. الرشيد البيلي الأستاذ بجامعة النيلين بجانب تخصصه إحساس المشاهد العادي الذي تابع واستغرب ,و قبل ان نوجه اليه سؤال عما إذا كان المجتمع مهيأ نفسيا لقبول عودة التراث هذه في ظل موجة التجديد والحداثة , انتقد التفكير الواحد لأجهزة الإعلام دون ان تصاحبه قراءة نفسية لوضع المجتمع والمتلقي , وخلافا للآراء قال البيلي الإجابة على تساؤلنا قطعا ليست نعم , لان المزاج السوداني في الفترة الأخيرة اختلف ودخلته كذلك إيقاعات عربية وشرقية وحتى غربية , مما يولد تساؤلا آخر وهو من هو المستهدف بمشروع هذه العودة للتراث, ويؤكد البيلي علي ما ذهب إليه او وضوح الصورة لديه بالمشهد المتكامل لأشكال عرض الدلوكة والتي قطع بمجافاتها للبعد النفسي لان المرحلة التي تعبر عنها هذه الأغنيات لم تجسد حتى في لبس المغنيات او حتى المقدمات مما أخرجها عن زمنها , وبذلك ينتهي تأثيرها بانتهاء العرض لأنها لم تراع المغزى النفسي وبذلك تكون ليست وفق منهج مدروس أولها رسالة واضحة تجاه المجتمع .
وان كانت خارج الزمن , والي حين ستظل الدلوكة ملكة الطرب ولها جمهورها إن عادت أو غابت.
[/JUSTIFY]

تحقيق : ماجدة حسن
صحيفة الرأي العام

Exit mobile version