التزم الاتحاديون بزعامة مولانا الميرغني، في السنوات الماضية، المعارضة الهادئة، التي تكبت الكراهية، ولا تستعدي الآخر، وترسم القرارات برسمٍ سنّت ريشتَهُ (مبادئ) الوطنية، ولا يُمهر إلا بمصلحة الشعب، بعيدًا عن المصالح الضيّقة، قريبًا من المصالح العليا للوطن. وظلّت القناعة في الحزب أن المعارضة لا تُطلب لذاتها، كما أن المشاركة لا تُطلب لذاتها. لذلك كان (الاتحادي) يسعى بالمبادرات إلى الرئاسة والأحزاب ومكوّنات الشعب السوداني. لذلك فهم (الاتحاديون) بمعارضتهم يشاركون المشاركة الإيجابية في تدعيم الخطوات نحو الاستقرار السياسي.
الاتحاديون بكل أفرعهم تباينوا في التعاطي مع الأزمات الوطنيّة، ومعطيات المشاركة، ولكنهم كانوا يلتزمون دومًا بالفاعليّة، ففي التسعينيات عاد الشريف زين العابدين الهندي (توفي رحمه الله في:2006)، وهو يؤمن أن طريق خلاص الوطن ينبغي أن يمر عبر بوابة الحوار الداخلي مع النظام، وحاول جهده في ذلك. بينما صمد نفر في الخرطوم رافضين الخروج والمعارضة من الخارج، وحاولوا الثبات مؤمنين بأن الخلاص يأتي من ريادة صفوف الجماهير. آخرون ثارو قولاً وفعلاً في الجبهات، إلى أن تنازل لهم الحاكمون عن الكثير من المبادئ، وفتح التعددية وفسح هامشًا من الحريّة. بينما دخل مناضلون إلى البرلمان الوطني رغبة في التغيير، في قيادتهم رجال مثل فاروق أبوعيسى، وعلي محمود حسنين، والشيخ حسن أبو سبيب وغيرهم من رجالات الحزب، ولما جاءت الانتخابات شارك الحزب وقاطع قياديون منه، ولكنهم في اللحظات الأخيرة، دعموا حاتم السر مرشح الرئاسة دعمًا لا مثيل له، أما الدكتور التوم هجو فقدّر أن المشاركة الجزئية في ولاية النيل الأزرق ستؤمّن المصلحة الوطنية، وطوال كل هذه الفترة كان البعض مؤمنًا بالمعارضة العالمية، ويوفر لها الغطاء. وآخرون يرون أن الانفتاح السياسي الذي قُدّر للحزب الحاكم أن يلتزمه يجب أن يعاونوه على استكماله ليتم تحولاً ديموقراطياً. كلهم كانوا يفعلون ذلك رغبة في تحقيق مصلحة الوطن، وكان مولانا الميرغني يدير هذا التنوع بحكمة وحنكة سياسية كبيرة.
رفض الحزب الاتحادي لنتائج الانتخابات، وامتص لخيبة الاستفتاء، و عزم على تداركها. بصبر قادته، وحماسة شبابه، وحراكهم القوي والصادق والمطلوب، وحنكة قادته وقدرتهم على الاختلاف، ونشاط المرأة فيه والقطاعات الأخرى، و الفعل القوي لكل لجانه، واحترامها لذاتها، والمتغيرات الدولية، والداخلية، كل هذا الخضم جعل لوحة الاتحادي الديموقراطي هي اللوحة الأبهى القادرة على تغيير الواقع الأعوج، كان أشبه ما يكون بالفن التشكيلي وألوانه المتداخلة، أو السمفونيات وألحانها البديعة، حزب لا يعرف الخمول، ويعج بكل هذا الخضم، فراهنا ونراهن بأنه جدير بأن يضيف الكثير لو فهم نشاطه على الوجه الوطني، تمامًا كما لو فهمت اللوحة التشكيليّة أو اللحن السمفوني العظيم.
البعض يشفقون على قادته، ولكن القادة، عيونهم ملؤها أمل وهيبة، يرون هذا الحراك، خيرًا وفيرًا، حراك التأييد وحراك الرفض، وهذا الحماس، هو الذي يولّد فهم الديموقراطية، وهو الذي يعلّم الأجيال أهمية المؤسسيّة، فالذي يُرى من القاعدة أنه قعد عن الانخراط الحزبي الملتزم، سيعوض ذلك قريبًا، وسينضم وينسلك وسيفيد الجميع بنشاطه الجديد والجيد.
من نعمة الأمر أن على قيادة الاتحادي الديموقراطي رجل بقامة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، فرجل دربته الحياة وعرفها، منذ أن شهد أول جلسة لأول برلمان سوداني وقبل وإلى الآن، وهو يمارس السياسة ويعرف كيف يتجاوز المخاطر والمحطات، يستطيع أن يخرج بحزبه إلى بر الأمان، أكثر قوة وأشد حكمة.
بالطبع، يوجد من أدمن أن يخوّن الآخر، ولكن هؤلاء ليسو تيار في الحزب الاتحادي، بل هم نشاز، فالاتحاديون، أول أمرهم ديموقراطية، وآخر حديثهم (ما اختلفنا)، وهم بكبارهم، فلهم أن يدعوا أن أهم قيمهم أنهم يتصالحون مع تاريخهم، ويؤمنون بقيادتهم، ومهما كان الاختلاف والاتفاق على المشاركة، وإخراجها، إلا أن حوض أبوهاشم، يضم الجميع، لأنه الموروث الشاهد على تاريخ الحركة الاتحادية، فهو شموخ علم الاستقلال ونزاهة الأزهري ونضال الهندي، وعنصر السيد علي الميرغني، هو حادي الركب وقائد السفينة، ذو الدول، والدور الكبير، وفخار عزه يسع السودان، فكيف يضيق به اتحاديون!
الطاقم الرئاسي الجديد، وهو يتضمن زعامة الختميّة والأنصار، والإسلاميين، طاقم سيضيف الكثير من التنوع، ولكن المطلوب، هو توسعة الماعون ليسع اليسار، وبقية الطيف. ورغبة كل القواعد في التغيير، ستكون إيجابية لو تم تغيير ناعم في النظام، وتراضى الجميع على تجاوز مآسي حكم السنين الماضية، وحقق الحزب الحاكم الوعد الأبلج، بانتخابات رئاسية حرة ونزيهة، وبرلمانية في موعد قريب، حينها ستبدو الأمور أوضح على من التبست عليه المواقف، وحينها سيسجل التاريخ هذه الحكومة، حكومة لتمتين التحول الديموقراطي وتدارك التنمية.
يجب أن لا تهمنا “مشاركة” الأحزاب ومقاطعتها، المهم أن نستوعب خطورة بناء دولة ما بعد الانفصال على أرض مهترئة، ودستور مختلف عليه، وأحزاب تضيق بحرية المخالف لها، ورؤى تتنافر، فهذا للأسف- يعني أننا لم نستوعب شيئًا من انفصال الجنوب. وأننا سنعيد الوقوع في نفس الخطأ، ما دمنا نرفض أن نقبل حقيقة، أن الحق يتعدد، وأن الصواب كثير، وأن الاختلاف رحمة، وسعة، وأن التنوع نعمة، فالوطن لا يضيق ويتسع بأرضه و لا بحره، وإنما يضيق ويتسع بسعة صدور أبنائه، ورحابة الوعي، وقبولهم للآخر؛ وعليه فإن حلمنا بوطن يسع الجميع، هو الحلم الجديد القديم الجيد والجدير بالعناية، فهل يسع الحاكمون أن يعينوننا عليه![/JUSTIFY]
عمر الترابي