سيرة وطن في مسيرة زول (16)

[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (16) [/ALIGN] قطت صريع دوسنتاريا خبيثة وأنا طالب في المرحلة المتوسطة وأقيم في السكن الداخلي بعيدا عن أهلي، وعندما اشتد علي المرض اضطررت الى اللجوء الى الشفخانة (المركز الطبي) وكان به كما ذكرت في مقالي السابق فقد كان المساعد الطبي المشرف عليه سكيرا تفوح منه رائحة الخمر على مدار الساعة، وقبل أن أكمل شرح “حالتي” مد لي كوب الطلس وبه جرعة من “المزيج الأبيض”، وكان عقارا مسهلا (ليس ملينا، بل مسهلا)، والدوسنتاريا أصلا إسهال متواصل، فكيف يكون حالك عندما تتناول عليها مادة كيمائية مسهلة؟ علم أحد المدرسين ان “محمد أُنقي” وكان تاجرا في سوق البرقيق يعاني من الدوسنتاريا فلجأ إليه فتبرع لي بحبة واحدة من عقار انتروفيوفورم الذي كان وقتها العلاج الوحيد المتاح للدوسنتاريا،.. طبعا لم تكن حالتي لتستجيب لقرص واحد، (تم لاحقا سحب هذا العقار بعد ان اتضح انه يسبب بلاوي كثيرة من بينها العمى)، وأصبحت عاجزا عن الحركة فتم إبلاغ اهلي بحالتي فنقلوني الى البيت، وهناك عقد الخبراء “كونصلتو” ومكثت عدة ايام أتعاطى مختلف انواع العلف،.. برضو مفيش فايدة.. ثم قال احد مثقفي البلدة (وكان أميا ولكن يعتبر مثقفا طليعيا لكونه عمل في مصر بعض الوقت، ويتكلم العربية!!).. قال ان الأفيون خير علاج للدوسنتاريا!! وأبدى أهلي استعدادا لشراء الأفيون من حيث يوجد، ولم يكن أي منهم يعرف انه مخدر بريمو أي درجة أولى، ولكن صاحبنا المثقف قال ان السبيل الوحيد للحصول على تلك المادة “العلاجية” هو ان يتم إرسال خطاب الى عم فلان الذي سيعود من مصر في إجازة بعد خمسة أشهر!! ولم يكن ممكنا ان أصمد خمسة أسابيع، وهكذا اقتنعت أمي بفشل الخبراء المحليين، وسافرت بي الى مدينة دنقلا حيث المستشفى الكبير، وهناك أخذت أول حقنة في حياتي، واقتنعت فور دخول الحقنة في جلدي بأنني سأتعافى، فقد كنا قد سمعنا بالحقن، ولم يكن يتعالج بها إلا “الناس الواصلين اللي عندهم واسطات قوية”،.. وفي دنقلا رأيت الحياة المترفة للأطباء.. كان الواحد منهم يجلس في مكتبه وفوق رأسه فوطة قماش طويلة وعريضة تتدلى من عود خشبي ويمتد منها حبل ينتهي في يد سجين يجلس أمام المكتب وهو يسحب الحبل بإيقاع منتظم، فتتحرك الفوطة الى الأمام والخلف لتحريك الهواء، كما في حالة “الهبابة” اليدوية التي انقرضت (ولكنها ما تزال تستخدم في الصين واليابان).. وقالت امي انه عز ما بعده عز ان يكون الشخص طبيبا… وبعدها بسنوات عندما دخلت كلية الآداب بجامعة الخرطوم نصحتني ان أعمل طبيبا فور تخرجي! وكان عندنا في بدين مساعد حكيم (وكان شاغل هذه المهنة يشكل عماد الخدمات الطبية وقتها وكان معظمهم مهرة وحاذقين وذوي تجارب).. وكان صاحبنا من أنصار “الطب البديل”،.. تذهب اليه وانت تشكو من حمى سببت لك الهذيان فيكتب لك بعض التعاويذ في صحن، لتغسلها لاحقا وتشرب المحلول “المبارك”، وبعض الشخابيط على ورق لتحرقها وتتنسم دخانها (بخور)، ويقرأ بعض الكلمات و”يتف” أي يبصق على وجهك… من منطلق انك تعرضت لضربة من الجان، فقد كانت كل الأمراض في تقديره تنشأ عن ضربات الجن أو العين الحاسدة.. ومنا من قضى نحبه بعد تلك الوصفات ومنا من أفلت وأدرك عصر الباراستيمول والاسبرين.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version