سيرة وطن في مسيرة زول (15)

[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (15) [/ALIGN] نا أطفالا ما بين الحادية والثانية عشرة عندما التحقنا بمدرسة البرقيق المتوسطة، وسكنا في الداخليات، أي داخل حرم المدرسة، وكنا جميعا بالونات جرثومية متحركة، ولكن معظم الجراثيم التي كنا نحملها كانت من النوع الحميد،.. بعبارة أدق اضطرت تلك الجراثيم الى تطبيع العلاقات معنا كي تضمن لنفسها فرص البقاء،.. طوال المرحلة الابتدائية كانوا يقصون شعرنا على الجلدة أي “صلعة” مرتين في الشهر، وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة لمنع القمل من ان يشاركنا في دمائنا التي كانت تبقينا على قيد الحياة، وكانت الحلاقة تتم بأمواس يخيل إلى أنها بقايا الفؤوس التي استخدمت في صنع سفينة نوح عليه السلام، فقد كانت شفراتها سميكة، وتعجز عن جز الشعر ما لم تستخدم بطريقة المحراث، بأن يتم غرز جزء منها في الجلد وتحريكها الى فوق وتحت كي ينتزع الشعر من “لغلوغه” ومعه بعض الجلد، وكان من النظريات الفولكلورية الطبية السائدة وقتها ان أي دم يخرج من جسم الانسان يفيده صحيا لأنه دم فاسد، ومن ثم كانت نفس الأمواس التي كانوا يجزون بها فروة رؤوسنا تستخدم في ما يسمى بـ”الفصادة”، وهي إحداث جروح سطحية في الجلد (جلد الساق في غالب الأحوال للتخلص من “الدم الفاسد”.. تحس بـ”طمام” الذي هو نوع من عسر الهضم ينتج غالبا عن اكل أشياء لا تستسيغها المعدة والأمعاء، فيقومون بـ”فصد” تجريح ساقيك حتى يسيل منهما الدم، فيزول عنك الطمام “رغم أنفك”، يعني حتى لو قلت لهم ان الفصد بالموس لم يجعلك تحس بتحسن، قالوا: بتهيأ ليك.. إنت كويس بس بتدلع.
ونفس تلك الموس التي غالبا ما تكون نصيب أبيك من ورثة جدك، تكون قد استخدمت في ختان عمك وحلاقة شعر جميع أولاد الحي وفصد نفيسة وهاشم ونصف رجال ونساء الجيران،.. ألم أقل لكم ان الجراثيم والميكروبات كانت تجاملنا و”تُقدر ظروفنا”؟.. وبعد الحلاقة بالموس المحراثية والدم يتساقط من رأسك وكأنك نجوت من سيارة فخخها ابومصعب الدارفوري، يتم وضع عجين الذرة على رأسك “آفتر شيف”، فتحس ببرودة منعشة في فروة رأسك، ولكن الوحوحة والتأوهات تتجدد عند غسل العجين بعد أن يجف! حتى في الشفخانات التي صار اسمها لاحقا المراكز الطبية كانت طرق العلاج لا تقيم وزنا لانتقال العدوى من شخص الى آخر، ففي كل شفخانة (كلمة تركية تتألف من “شفاء” و”خانة” التي تعني “مكان”، وترمز شفخانة الى مراكز العلاج، وما زال السودانيون يسمون دورة المياه باللفظ التركي “أدبخانة” وترجمتها “بيت الأدب”)، كانت هناك نحو ست زجاجات مملوءة بسوائل يتم تحضيرها محليا: قلوي وبلادونا ومزيج ابيض وبزموت وشراب للكحة وملح انجليزي، ويقف المرضى في طابور، هذا يأخذ جرعة من دواء معين، وذاك يأخذ جرعة من دواء آخر وثالث يتناول جرعة من دواء ثالث،.. كل ذلك بكوب صغير من الحديد المطلي باللون الأبيض (طلس)، أي ان جميع المرضى كانوا يتناولون أدويتهم من نفس الكوب من دون غسله (وتذكرك أنه كانت هناك ستة أصناف من الأدوية لكل الأدواء والعلل.
ذات مرة وأنا طالب في مدرسة البرقيق الوسطى أصبت بدوسنتاريا فظيعة هدّت حيلي وأهلكت بعيري، وجعلتني طريح الفراش، وعانيت من آلام مبرحة في البطن والظهر،… وزاد حالتي سوءا ان مساعد الحكيم (لقب يطلق على الممرض طويل الخبرة الذي يعمل في مراكز طبية صغيرة لعلاج الحالات البسيطة) المهم كان مساعد الحكيم رجلا مستهترا يقضي يومه كله وهو تحت تأثير الكحول،… كان الواحد منا مثلا يذهب اليه شاكيا من نزلة برد، فيطلب منك ان تكح “بالعافية”، فتكح من دون ان تكون تحت تأثير نوبة كحة في تلك اللحظة، فيمسك بالورقة التي أتيت بها من المدرسة ويكتب عليها “متصنع” وتعود الى المدرسة وتخضع لخمس جلدات، بتهمة الاستهبال وتصنع المرض للزوغان من المدرسة، وهكذا كان معظمنا “يقطعون المرض في مصارينهم” كما نقول في السودان عن الأمر الذي تسكت وتصبر عليه، تفاديا لمفاقمة حالتهم الصحية بخمس جلدات، بتهمة تصنع المرض.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version