كذلك لم يكن تصرّف الحركة الشعبية بتعليق مشاركتها فى الحكومة هو الأول من نوعه, فقد فعلت ذات الأمر العام الماضي في نهايات رمضان, فيما أصطلح على تسميته بأزمة الشريكين, وهو ما قاد رئيس تحرير الزميلة (الخرطوم) فضل الله محمد الأربعاء الماضي الى انتقاد مسلك الحركة الشعبية بشدة في عموده الراتب، ووصفه للموقف بالفرقعة الإعلامية التي تستهدف غرضاً سياسياً, كما وافقه في ذات الرأي صاحب عمود عابر سبيل الراتب بذات الإصدارة الصحفي د. إبراهيم دقش, واعتبرا أن الأمر كان يمكن معالجته بالحوار داخل جهاز الدولة مع الشريك الحاكم.
الموقف المعلن من الحركة الشعبية، وبعض ردود الفعل عليه, يعيد التساؤل القديم عن مدى علاقة السياسة بالأخلاق في البلاد, ليس على صعيد الحركة الشعبية وحدها, وإنما كل القوى السياسة, سيما وأن أي خطوة في الوقت الحالي يصعب التعامل معها بحسن ظن, مع اقتراب موعد الإنتخابات العامة المقدر تنظيمها العام المقبل. كما أن الشارع العام في غالبه بات يتعامل مع الساسة على أنهم مراوغون , لا يدخرون وسعاً ولا حيلة في الوصول الى مراميهم, حتى بات الشخص البارع في الوصول لغاياته بالحيلة يوصف بأنه سياسي.
ويقال إن الزعيم النازي هتلر كان ينام وتحت وسادته كتاب أرسطو (الأخلاق) ليقنع نفسه بأن ما يفعله مبرّر ومسبّب, ويروى أن بعض الساسة العالميين كان يحرص على اقتناء كتاب مكيافيلي (الأمير).
ويقول المعارض السوري والناشط في قضايا حقوق الإنسان أكرم البني في مقال منشور: “إنه إذا كانت السياسة في تعريفها البسيط هي طرائق قيادة الجماعة البشرية، وأساليب تدبير شؤونها، لما يُعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجموعة القيم والمُثل الموجهة للسلوك البشري، نحو ما يعتقد أيضا أنه خير وتجنّب ما ينظر إليه على أنه شر”.
وكلتاهما – السياسة والأخلاق- تستهدفان تمليك الناس رؤية مسبّقة، تجعل لحياتهم هدفا ومعنى، وبالتالي تلتقيان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ والعلاقات الإنسانية والذود عنهما، لكن تفترقان في أن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة تختلف نوعيا عن تلك التي تتناولها الأخلاق، تصل إلى حد التعارض عند ميكافيلي الذي يغلّب السياسة على الأخلاق في كتابه “الأمير”، ليظهر السلوك الميكافيلي كما لو أنه يتنكر صراحة لجميع الفضائل الأخلاقية، حين يبرر استعمال كل الوسائل لتحقيق الغايات السياسية!!
لا يقصد إذاً بالأخلاق في ميدان السياسة حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة، على أهمية هذه القيم وضرورتها في العمل السياسي النظيف، بل أساس تلك العلاقة الشائكة والمعقدة بين الهدف السياسي والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التي تعترض أصحاب غاية سياسية عند اختيارهم وسيلة نضال ورفض أخرى، أتستند هذه المعايير إلى محتوى الغاية، أم إلى طابع الأساليب، أم إلى القيم الإنسانية العامة؟.
ويقول القيادي بحزب المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام لـ(الأحداث) إن علاقة السياسة بالأخلاق شغلت الفلاسفة والمنظرين منذ وقت طويل, لافتاً الى رسالة دكتوراة هنري كسينجر عن الحرب الباردة والتي تحدث فيها عن موقف الرئيسين الأمريكيين الأسبقين فرانكلين روزفلت الذي يرى بتلازم القوة والأخلاق، وأيزانهاور الداعي الى أن القوة يمتلكها صاحب الأخلاق, مضيفاً أن نمط التفكير الأخير جعل السياسة الأمريكية حتى الآن تبني استراتيجيتها على القوة, أما بالنسبة للساسة المسلمين فيرى المحبوب, أن ارتباط السياسة بالدين أو العلمانية يحدده فهم السياسي لكونها عبادة تستوجب مراعاة الله, أم غير ذلك. مضيفاً أن جل الساسة السودانيين تربوا على مفاهيم السياسة البريطانية التي ترى في السياسة لعبة تحكمها قوانين اللعب, وبالتالي يجوزون لأنفسهم كثيرا مما لا يتفق وروح الإسلام, في وقت يقول فيه القيادي الشيوعي د. الشفيع خضر إنه يتعين على السياسي التقيد بأقصى معايير الأخلاق, وأن يترك خلف ظهره المقولات التي تنظر للسياسة على أنها فن المناورة والنفاق والخداع, لكنه يرى في الممارسة الفعلية للسياسة في البلاد أن المواقف السياسية تعبر عن مصالح ضيقة لفئات أو أحزاب بشكل لا أخلاقي.
وعندما سألته عن رأيه في علاقة الدولة السودانية منذ نشأتها بالأخلاق, رد المحبوب بسرعة, واصفاً إياها السيئة, مستدلاً بكتاب المحامي الجنوبي والسياسي المعروف أبل ألير “جنوب السودان.. نقض العهود والمواثيق”.
أما القيادي في الحركة الشعبية وليد حامد, فيعتبر أن السياسة السودانية تنعدم في ممارستها الأخلاق تماماً, خلافاً لما هو مفترض حسب تعبيره-, مردفاً أن السياسة فى البلاد تسبق الأخلاق وتتجاوزها في حالة الإختلاف. ويقول وليد حامد إن الإنقلابات العسكرية وتكرارها في تاريخ البلاد أوضح مظاهر مجافاة الأخلاق في السياسة السودانية, لكونها تؤشر الى الرغبة في الوصول الى أهداف سياسية بأي ثمن, غض النظر عن تبعاتها من تعطيل الشرعية ومصادرة الحريات, وموت. بينما اعتبر القيادي الشيوعي الشفيع خضر الفساد أهم مظاهر اللا أخلاقية في البلاد, وتسخير موارد الدولة لصالح فئة معينة, بما يفضي الى النزاعات والحروب الأهلية وإفقار الماوطن, ولا يرى الشفيع في الإنقلابات عملاً سياسياً لا أخلاقياً لكونها في رأيه من مظاهر الصراع السياسي ليس إلا, مردفاً إن وصفها باللا أخلاقية يجرم الإنتفاضة في العام 1985م, ويحصي قيادي حزب المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام مظاهر اللا أخلاقية في مسيرة السياسة الوطنية, منذ سفر وفد الإستقلال دون أن يضم جنوبيا, ونكوصه عن وعده للجنوبيين بالدفاع عن الفيدرالية, ويضم المحبوب الى الواقعة تراجع أحزاب ثورة أكتوبر عدا جبهة الميثاق الإسلامي عن وعدها للرئيس الراحل إبراهيم عبود بعدم تقديمه للمحاكمة في مقابل تنازله عن السلطة, الى جانب إستدارة الرئيس الأسبق جعفر نميري على إتفاق أديس أبابا, وتنكر الإسلاميين الحاكمين لإتفاقية الخرطوم للسلام الموقعة مع د. رياك مشار ود. لام أكول, وتبنيها خصم الرجلين بيتر قديت, ما أدى الى عودتهما للغابة, لكنه يرى أن الأسوأ دوماً هوحل البرلمان والإنقلاب على الدستور في أي وقت, سيما في العام 1998م.
ويقر المحبوب بأن التحرك العسكري للحركة الإسلامية في 30 يونيو 1989م شكل صريح من اشكال لا أخلاقية السياسة لها, وزاد “لذلك سعينا الى حل مجلس قيادة الثورة وتشكيل حكومة وطنية, ووضع دستور, لكن اختلفنا في المسارعة في الكفارة, فبعضنا كان يرى أن الشعب قبلنا وباركنا وكره الأحزاب, فلا داعي لذهابنا, وآخرون رأوا التعجيل لأنه عهد تواثفنا عليه”. أيضاً القيادى في الحركة الشعبية وليد حامد يعترف بأن الحرب في الجنوب التي خاضها تنظيمه لم تكن عملاً أخلاقياً, غير أنه يبرره بالإضطرار الذي وجدت حركته نفسها في مواجهته مما أسماه قسوة الدولة وصلفها, ويؤكد وليد حامد أن أستمرار الحرب في دارفور بوجود حزبه في قلب السلطة مظهر آخر للا أخلاقية في ممارسة الحركة الشعبية السياسية, “هي أكبر وصمة عار على جبين الحركة الشعبية, لكونها سكتت عليها وهي في موقع قرار مفترض”, مردفاً أن الحركة لم تحسن استغلال الظرف المواتي بعد إتفاق سلام نيفاشا لحل مشكلة دارفور سلمياً, غير أن وليد ينفي ما سقته له من أن الحركة متهمة بتوليف ورعاية حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور, وهو تشكيك كبير في أخلاقية التنظيم, مؤكداً أن عبد الواحد صنيعة الظروف، وليس الحركة الشعبية, وأنه أيضاً نتاج صلف الدولة وقسوتها.
وينفي الشفيع وقوفه على أي حال رأى فيها أن حزبه جافى الأخلاقية, معتبراً مساندة الشيوعيين لإنقلاب نميري في إطار العمل السياسي, زاد الشفيع إن وصف الإنقلابات باللا أخلاقية ليس دقيقاً, لأنه يجعل من الإنتفاضة كذلك, مضيفاً أن آلية الإنقلاب والإنتفاضة ليستا مقبولتين لديه لأنهما تنطويان على مفهوم الوصاية على الجماهير, وهو مفهوم ينتهي الى طريق مسدود في الحالتين.
درة قمبو :الاحداث[/ALIGN]