ورغم ان معظم فترات الحكم في السودان منذ خروج المستعمر كانت عبر أنظمة عسكرية إلا ان تلك الأنظمة لم تكن تمارس ديكتاتورية قابضة ولم يكن الشعب السوداني خلال كل تلك الأنظمة العسكرية يحس أنه ((مكبل)) أو محروم من ممارسة النقد والإنتقاد، وهذا ما دفع أحد أكبر قادتنا السياسيين واحد أبرز معتقلي نظام مايو والذي كان معارضاً محاصراً وقضى حقباً داخل سجون مايو خلال فترة الرئيس جعفر نميري دفعه للقول خلال إحدى محاضراته السياسية في جامعة الخرطوم العام 1982م التي هاجم فيها القمع الديكتاتوري الذي تمارسه عدد من الأنظمة العربية ضد شعوبها ولكنه لم يهاجم نظام نميري في تلك المحاضرة وهذا ما دفع أحد الحاضرين لسؤاله خلال المحاضرة لماذا لم يشمل (نظام مايو الديكتاتوري) في هجومه على الأنظمة العربية؟ فما كان من المحاضر السياسي البارز إلا أن أجاب: إن أجهزة الأمن في نظام مايو إذا ما قورنت بأجهزة الأمن في البلدان العربية فإنها تستحق ان تمنح عن جدارة صفة (أولياء الله الصالحين)، وهذه شهادة حق لصالح نظام الرئيس جعفر نميري الذي حقيقته لم يكن نظاماً قمعياً بالصورة التي يحاول بها الشيوعيون إظهاره بها منطلقين من إعداماته التي مارسها ضد الحزب الشيوعي عقب إنقلاب هاشم العطا لأن هذه الإعدامات هي (إعدامات مبررة) حسب العرف العسكري ولأن الذي ينفذ انقلاباً يعلم تمام العلم أنه يحمل (روحه على كفه) وهي ضريبة طبيعية للمبادئ التي دفعته لإرتكاب ذلك الفعل، وما يقال عن الرئيس جعفر نميري يقال أحسن منه حول نظام الرئيس الراحل إبراهيم عبود ويقال أحسن منه وزيادة حول نظام حكم الإنقاذ في نسختها الأولى العسكرية، وهذا التسامح العسكري للحكومات العسكرية السودانية هو الذي جعل الشعب السوداني لا يحمل حساسية كبيرة تجاه العساكر، حيث ظل الشعب السوداني خلال كل الحقب العسكرية يمارس حياته بحرية وديمقراطية وفق مساحات مختلفة تضيق وتتسع حسب الأجواء السياسية السائدة.
ولم يحس الشعب السوداني في يوم من الأيام ان هناك حكومة تراقبه وتتجسس عليه وتحسب عليه حركاته وسكناته كما كانت وظلت تفعل كل أجهزة الأمن في الوطن العربي. ولذلك عندما جاءت الانقاذ ورغم إستخدامها للفعل العسكري في التغيير إلا أن أكثر ما يميز حكومة الانقاذ انها أكثر حكومة سودانية عسكرية نالت إلتفافاً شعبياً بسبب ما أتاحته من مساحات واسعة في الحريات الصحفية والسياسية والتنظيمية وتدرجت بها حتى إنتهت إلى ديمقراطية كاملة شهد عليها كل العالم، والغريب أن هذه المساحات الواسعة من الحريات الصحافية والحزبية التي أتاحتها الإنقاذ لم تقابل (بالشكر والثناء) لا من الأحزاب المعارضة ولا من المجتمع الدولي حيث ظلت الانقاذ تتهم »زوراً« داخلياً وخارجياً بأنها من أسوأ الأنظمة في مجال الحريات، ولذلك ينبغي على الإنقاذ ان ترد على هذه الاتهامات الباطلة »بالدواء« الذي يقابلها وهو ان تجرى مراجعات شاملة لكل العملية الديمقراطية في السودان وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية بعيداً عن إبتزاز المعارضة »شاهدة الزور وناكرة الجميل« وبعيداً عن ابتزاز المجتمع الدولي »الأعور« لأن الإنقاذ لن تخسر شيئاً لأنها في كل الحالات هي في نظر المعارضة والمجتمع الدولي (ظالمة) و(غير ديمقراطية) ولذلك فإن الواجب السياسي يحتم على الإنقاذ ان تبحث عن ديمقراطية تتواءم مع واقعنا ومع طبيعة شعبنا، وهذه المراجعات قد تسهم في تعليم (أحزابنا الغافلة)أن (كفران النعمة) قد يذهب بها إذا إعتبرنا إفتراضاً ان هذه الحريات الفوضوية الممارسة الآن هي (نعمة)، وقد تسهم أيضاً في تعليم بعض (صحافتنا الساهية) التي تسترزق من معارضة ومهاجمة الحكومة صباحاً ومساء عبر مساحات الحريات الصحفية المتاحة الآن تتعلم ان كفران النعمة قد يذهب »بالرزق«، لذلك فإن أوجب ما ينبغي ان تقوم به حكومة الانقاذ عاجلاً غير آجل هو تعديل دستوري عاجل يلغي إنتخابات الولاة لأن هذه الانتخابات هي توسعة وزيادة في العملية الديمقراطية لم تطبق أو تمارس في كل الديمقراطيات السابقة ولم يطالب بها حتى المجتمع الدولي وهي أظهرت الإنقاذ كمن يسعى إلى »عش الزنبور برجليه« لأن أكبر مثالب هذه الانتخابات التي تجرى في الولايات تجعل رئيس الجمهورية وفق(الدستور) لا يستطيع ممارسة صلاحياته في تغيير الولاة إلا عبر إعلان حالة الطوارئ، وينبغي ان نتذكر أنه لولا هذه الإنتخابات لما وجدت الحركة الشعبية موطىء قدم في الشمال عقب إنتهاء أجل الاتفاقية وإنفصال الجنوب، ولذلك مطلوب من الحكومة ان تبدأ عهد الجمهورية الثانية بإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي في الولايات بل إنني أطالب حتى بإلغاء الطريقة السابقة لإنتخابات الولاة التي كانت تمارس داخل المؤتمر الوطني عبر إختيار ثلاثة أسماء عبر (الكلية الشورية) لأن هذا النظام أيضاً ولد إحتكاكات ومخاشنات داخل حزب المؤتمر الوطني ذهبت بكثير من إنضباطه ورزانته.
[/JUSTIFY]صحيفة الرأي العام