[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (11) [/ALIGN]
كلما تذكرت سنوات دراستي في مدرسة بدين الأولية/ الابتدائية، ازددت تمسكا بقول الشاعر محمود سامي البارودي: خلقت ألوفا، لو رُدِدت الى الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا،.. ولو كان ممكنا أن يعود الانسان الى أطوار نشأته الأولى لكنت أول الرافضين لذلك، فما علق بذهني عن مراحل الدراسة ما قبل الجامعية هو الضرب الموجع الذي أدمى مؤخراتنا، والذي قل ان أفلت أحدنا منه مرة في الأسبوع على الأقل،.. في السنة الثانية لي في مدرسة بدين الأولية ابتلانا الله بمدرس “زُهجي، أخلاقه في مناخيره، وعلى الهبشة”، وكان غريب الأطوار، يجلس على الكرسي فور دخوله حجرة الدراسة واضعا أمامه عددا من الأحذية القديمة التي كان يقذف بها في وجوهنا كلما أخطأنا في تسميع القرآن او الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها الينا، وكان مقرر الدين يقوم اساسا على التلقين الببغاوي الذي هو الحفظ غير المصحوب او المسبوق بالشرح، وكنا ندرس شيئا من “العبادات” ولكن أيضا بطريقة الحفظ “الصم” دون فهم: الفور والدلك (الوضوء)،.. الطمأنينة والاعتدال (الصلاة)،.. الجهر في محل الجهر والسر في محل السر (الصلاة).. جدعة، بنت لبون (الزكاة)، والأحذية القديمة التي كان مدرسنا -سامحه الله- يطلقها في وجوهنا، كانت من النوع الذي يلحق بالانسان عاهات مستديمة لأنها كانت أحذية بلدية من الجلد الذي يتيبس بطول الاستخدام والتعرض للماء، ولم يكن الناس في ذلك الزمان يتخلصون من الحذاء القديم الا بعد تعذر الحصول على منفذ فيه لمسمار جديد، وهكذا كانت الأحذية الملقاة في الشوارع بعد ان صارت غير صالحة للترقيع “مصفحة”، ويزن النعل وحده نحو كيلو جرام،.. وتخيل كيلو جراما من المسامير موجها نحو وجهك وعمرك نحو سبع أو ثماني سنوات،.. هاج ذلك المدرس ذات مرة وكاد ان يمارس بحقنا القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد، فقد كان مطلوبا منا ان نحفظ انشودة “طلع البدر علينا”، وفي اليوم المحدد “للتسميع” طلب منا ان نؤديها سويا، فوقف نحو 50 تلميذا من المحس والدناقلة مرددين: تلأ البدر ألينا/ من سنيات الوداء/ جئت شرفت المدينة/ مرهبا يا هير داء،.. لم نفهم سر هيجان المدرس واندفاع الشتائم من فمه كالرصاص: يا أولاد الكلب يا عجم يا بجم،.. سيد الخلق وشفيعنا يوم القيامة “خير داء”، بسبب عدم وجود حرف/صوت العين في اللغة النوبية نطقنا “طلع البدر علينا” “تلأ البدر ألينا”، وصارت “مرحبا يا خير داع”.. مرهبا يا هير داء” – وحاشا أن نكون نحن النوبيين الذين لا نبدأ عملا جماعيا إلا بأنشودة “الصلاة على النبي” أن نعتبر “دواء الأمة ومن أتاها بالشفاء من كل علة، “داء” بس نعمل إيه في ألسنتنا المربوطة.. المهم ان المدرس انهال على الواقفين في الصف الأمامي بالضرب بعد ان طاشت الأحذية القديمة التي كان متسلحا بها بعد ان تعلمنا كيف “نزوغ” منها،.. ولم يبق ذلك المدرس طويلا في مدرستنا فقد اختفى في ظروف غريبة وسمعنا لاحقا انه نقل الى مدرسة في جنوب السودان وأنه قتل على أيدي المتمردين هناك.
وقلب وإبدال الحروف في اللغات العامية العربية يوقع الكثيرين في الغلط الفادح ففي بلدان مثل العراق والسودان – وإلى حد ما الكويت- تصبح الغين قافا والعكس ويا ما سمعت وعاظا يتحدثون عن “ليلة الغدر” التي هي خير من ألف شهر.. ومدرس العلوم الذي يتكلم عن نظرية داروين ومقولة إن البغاء (البقاء) للأصلح.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com