وأتينا مدرسة البرقيق وثقافة الرعب متمكنة منا، فإذا بنا أمام خطر حقيقي شاهده المئات وشاهدته نفسيا عدة مرات: الضباع!! فلأن منطقتنا محاصرة بما يعرف بالصحراء النوبية، وبما ان مزارع المشروع الزراعي لم تكن مأهولة ليلا، فقد كانت الضباع تتسلل الى المدرسة كل مساء.. خذ في الاعتبار أننا كسائر السودانيين كنا ننام في الفضاء المفتوح (الحوش) وليس داخل الغرف صيفا، وأن المدرسة لم يكن بها سوى سور من نبات يسمى العوير والأهبل، لأنك لو أخذت أي جزء منه وغرزته في الأرض ينمو بدون ماء وحتى بدون تيمم، ويتحول الى نبتة يصل ارتفاعها الى نحو 3 أمتار، بما أن سيقانه وفروعه كانت مجوفة فقد كان بمقدور طفل أن يجتاز ساترا من تلك الشجيرات مهشما مكوناته.. بعبارة أخرى لم يكن السياج النباتي يمثل عقبة أمام الضباع التي كثيرا ما استيقظنا ليلا لنجدها تتجول بين الأسرة الموزعة في فناء المدرسة.. وبسبب الضباع كنا نمتنع عن شرب السوائل بعد غروب الشمس.. أي شيء يستوجب زيارة دورة المياه ليلا.. بلاش منه، ومن يتعرض لزنقة تضطره الى الذهاب الى الحمامات ليلا، كان يستنجد بنحو أربعة من النائمين جواره كي يصاحبوه في المشوار، لأن الضباع لا تهاجم عادة إلا الشخص الغافل، وحتى لو استفردت بشخص واحد تظل تدور حوله وتقترب منه وتبتعد الى أن تجد فيه نقطة ضعف أو إلى ان يفقد توازنه من الخوف ويسقط.. وسمعت عن كثيرين عضتهم الضباع ولكن لم اسمع عن شخص فقد حياته على يد ضبع، لأن البهائم عندنا كثيرة ولم تكن الضباع بحاجة الى لحم البشر لتتزود بالقوت الضروري.
كانت مدرسة البرقيق تضم طلابا من قرى تقع على بعد عشرات الكيلومترات منها، ولكن معظمهم كانوا من النوبيين الذين لا يحسنون التخاطب بالعربية.. كان أول ناظر (مدير) للمدرسة هو أستاذنا الجليل الرائع مدني محمد عبد الماجد، وكان من حي بيت المال في أم درمان، ولم يكن معنيا فقط بأن يتفوق تلاميذه أكاديميا، بل كان له دور “تنويري”، فجميع طلابه قرويون لم يروا الكهرباء ولا السينما ولا الثلج والآيسكريم، ولهذا كان يشكل حلقات سمر في الأمسيات ويحدثنا عن عجائب المدن والاختراعات الحديثة بل وفر المال اللازم لتزويد كل تلميذ بفرشاة وأنبوب معجون أسنان، وكنا قبلها في غالب الأحول ننظف أسنانا بأعواد خضراء من جريد النخل.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com