{ الموسيقى:
لو أردنا أن نقوم بتعريف الموسيقى فما عسانا أن نقول:
بالطبع قيل الكثير في تعريف الموسيقى لكنني أرى الأمر بزاوية مختلفة تماماً. الأصوات المفهومة التي يكون منطقها عقلاني وعلمي لها أحرف ولغات.. ولكل حرف صوت معين.. وعندما تقوم بنطق عدة أحرف فإنك تنطق كلمة أو جملة مفهومة المعنى، ويكون الصوت هو الطريق لإيصال المعلومة.. فالعقل البشري يفك شفرة صوت كل حرف ويدرك المعنى المراد من أصوات الحروف التي انتظمت تلك الكلمة أو تلك الجملة ويزداد جلاء الكلمة أو الجملة وضوحاً كلما كانت الكلمات مرتلة أو تم إلقاؤها بصوت يتجانس ومعاني تلك الكلمات أو تم تلحينها وأداؤها في شكل أغنية.. أما الموسيقى بمختلف آلاتها فهي صوت غير مبني على حروف مستقلة بذاتها وتعتمد في لغتها الرموز وبعض حروف اللغات الأخرى.. وهي بذاتها تفتقر إلى معينات الإيضاح الذهني المختص بنغمة معينة وذات صوت معين.. وعلى الرغم من أن المهتمين بالموسيقى استحدثوا حروفا موسيقية مستخدمين أصوات بعض الحروف الحقيقية في لغات أخرى ومتطابقة مع الصوت الموسيقي أو النغمة الموسيقية لكنها تظل ضيقة النطاق وأشبه ما تكون بالتمثيل الصامت في الجمل الموسيقية.. فتجد العازف يقوم بعزف أصوات معينة ليقول لك إنها تعبر عن الفرح.. أو أصوات موسيقية أخرى ويقول لك إنها تعبر عن الحزن. إن الموسيقى تعبر لك عن الحزن بنغمات معينة لكنها تخلو من المفردات العميقة للحزن كما هو الحال في اللغات.. فمثلاً يمكن عزف مقطوعة حزينة ويستشعر السامع مدى الحزن في صوت الناي.. لكن هذا الحزن الذي يصوره لك الناي لن يرقى للوصف اللغوي المنطوق مثل قوله تعالى: (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم).. أو حينما تسمع أبياتاً لشاعر آخر يقول فيها :
وأماشي الورى ونفسي كالقبر
وقلبي كالعالم المهدود
وإذا ما استخفني عبث الناس
تبسمت في أسى وجمود
بسمة مرة كأني استل
من الشوك ذابلات الورود
فأنت عندما تسمع صوت الناي تشعر بشيء من الحزن لكنك لا تستطيع أن تقوم بتعريفه إلا إذا صاحب صوت الناي مغنٍّ يصف حاله المزري في فقد المحبوبة أو هجرها له … فالموسيقى لا تستطيع أن توصل المعاني بدون لغة في شكل غناء أو إلقاء يصاحبها في أحسن حالاتها.. ولكنك عندما تقرأ نصاً عربياً أو انجليزياً أو تسمعه فإنك تحيط بالمعنى المراد وتشعر معه بالحزن والأسى والحسرة.. أو تشعر بالفرح والسرور.. بل إنك تستحضر كافة المفردات التي اختزنتها في خيالك وفي عقلك ولها صلة بحالة الحزن أو حالة الفرح.. وليس هذا فحسب بل عندما تسمع (وابيضت عيناه من الحزن) يتولد في عقلك وترتسم في عينيك منظر العيون التي يفيض منها الدمع وقد سال على الخدين.. فإنك تكون شاهد لمشهد لم تره رأي العين ولكنك تدركه عين اليقين.
عندما أراد الله أن يصف المنافقين للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قال في القرآن: (ولتعرفنهم في لحن القول) .. فما هو لحن القول؟
اللحن هو صوت بصيغة معينة يقوم صاحبه بخلطه بحديثه ليستميل القلوب ليخدعها.. إذاً اللحن شيء للتمويه.. وإذا كانت الموسيقى هي ضرب من ضروب الألحان فهي ضرب من التمويه ونقل المشاعر والعصف بها بعيداً عن الحقيقة والواقع!!!
من هذا المنطلق أستطيع إذا حق لي أن أقول: إن الموسيقى هي أصوات تقول لك إن هناك فرحاً أو إن هناك حزناًَ ولكن دون أن تصدقك القول أو أن تحدد لك ملاح الحزن أو الفرح، بل تقود المستمع لحالة هستيرية هلامية طلسمية من الفرح أو الحزن يضطرب لها الجسد فرحاً أو كرهاً لكنها لا تفصّل لك الفرح ولا تفصّل لك الحزن لتدرك أبعاده الحقيقية.. وصوت الموسيقى يبقي الإنسان في حالة من الهستيريا دون أن يقيده بمدى ومقدار ذلك الحزن أو ذلك الفرح.. وإنما هو صوت هلامي يسيطر على مشاعر وأبدان من خوى قلبه ورأسه فلا يضع له بعداً للفرح ولا يضع له بعداً للحزن.. ويدلل على ذلك أن معظم عشاق الموسيقى تصل بهم الهستيريا إلى ما يسمونه الرقص.
من المعلوم أن الرقص هو نتاج تلك الحالة الهستيرية.. وعليه فمن الضروري أن يكون الرقص وفق إيقاعات معينة وحركات بدينة غير معينة.. لكن الرقص في عالم اليوم تتبناه مدارس متخصصة في تعليم الرقص.. فالراقص المنتشي حقيقة في واقع الأمر لا يعرف هل هو يسير إلى الأمام أم إلى الخلف.. وأصبح الرقص صناعة محضة.. وهذه الصناعة تحيد بالرقص بعيداً عن مسبباته الحقيقية !!!
وفي هذا السياق ما يؤكد صحته قول المتنبئ:
وقد يرقص الطير مذبوحاً من الألم
فهذا الطير في واقع الأمر يفرفر من أثر الذبح، والفرفرة معلوم أنها حركات غير منظمة وغير مقصودة، تارة تكون يمنياً أو شمالاً وفي كل الاتجاهات.. فهذا الرقص بمفهومه الحقيقي الذي أشار إليه المتنبئ.. وليس الرقص الذي يحدث في عالم اليوم وتقام له المدارس الخاصة به!!
على كل حال.. فالأصوات هي دلالات لمعاني مفهومة.. فعندما يغرد البلبل فالإنسان يطرب لصوته ولكنه لا يفهم ماذا يعني؟! فكل يفسر على حسب هواه.. فهناك من يزعم أن البلبل طرب وهناك من يزعم أنه حزين؟!
فعندما كتبت عنوان مقالك باسم (وطن من الشهد والموسيقى) استوقفني هذا العنوان وبدأت أفكر فيه.. فعندما تسمي شيئاً بأنه عسل فأنت تعني أنه حلو ومستساغ وفيه شفاء ودواء ويمد الجسم بالطاقة.. إلخ ولكنك عندما تسمس شيئاً بأنه موسيقي فإنك تكون وضعته في ثوب الضبابية، لأن الموسيقى فيها الحزين وفيها الطروب.. بيد أن الموسيقى في الحالتين تعجز أن توضح لك لماذا الحزن.. أو لماذا الفرح ما لم يصاحبها نص منطوق ومفهوم !!
عنوانك (وطن من الشهد والموسيقى) باستثناء (الشهد) فأنت جعلته وطناً مموهاً !!
ما كتبته لك يا سعادة البروفيسور ربما أكون فيه سيء الفهم واعتراني كل لبس ووهم.. لكنها خواطري وبدون أدنى شك أعلم يقينا أن فيها لبس وخلط لكنها لا تخلو من بعض الحقائق !!
{ مدخل للخروج:
ألا يا آخر النجمات دسيني، بين الضوء والأحلام رديني، لصدر النيل واحميني، من الطوفان غطيني بأهداب حريرية.. يذوب العظم في جسدي ويشعلني.. ربيع الحسن في عينيك، يطلع أول الأختام من قلبي.. فلا شعبي الهوائية.. ولا شرياني التاجي.. ولا صدري، ولا البستان في صبري
ولا الفلك التي تجري، هنا في اليم أو في الشارع البري، ولا تلك التي في الشط منسية.. ستخرجني عن الطاعات والأقدار والثورات والأسحار والدنيا، ولقياك الختامية.
معز البحرين
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com