المجلس الانتقالي، ليس الطرف الليبي المعارض الوحيد الذي تلقي دعماً سياسياً وعسكرياً سودانياً للإطاحة بالعقيد معمر القذافي من على سدة الحكم، ففي مطلع الثمانينيات، استضافت الخرطوم جبهة الإنقاذ الليبية بزعامة د.محمد المقريف، ووفرت لها التدريب العسكري، ومنحتها حرية الحركة والانطلاق من داخل السودان للانقضاض على ليبيا القذافي.
وقوف الخرطوم وراء ثوار ليبيا الحاليين، والمعارضة المسلحة في الثمانينيات، ربما لم يكن حباً في الثورات وأهلها بقدر ما كان كرهاً في القذافي الذي ناصب نظام نميري العداء ودعم معارضيه حتى دخلوا الخرطوم في العام 1976م بقوة السلاح، وناصب كذلك حكومة الإنقاذ العداء ودعم الحركة الشعبية حتى تمكنت من فصل الجنوب، ودعم حركات دارفور وحركة العدل والمساواة على وجه الخصوص حتى تمكنت من غزو الخرطوم في العام 2008م، وهو ما عبر عنه كرتي وزير الخارجية عندما قال مطلع الأسبوع الماضي في بنغازي إن القذافي كان سبباً في انفصال الجنوب، ودعم الحركة الشعبية حتى اشتد عودها وبات لها وزن سياسي ودولي جعلها تطالب بالانفصال، واتهم القذافي بأنه كان يسعي لتكرار ذات السيناريو في دارفور.
سوابق السودان الثورية لم تكن جميعها كرهاً في الأنظمة التي تشتعل في وجها الثورات وأعمال المعارضة المسلحة، فمنها ما كان حباً في الثوار، مثلما كان الحال مع الثورة الإريترية التي وفر لها السودان ممراً آمناً للمال والسلاح، وحديقة خلفية لإلتقاط الأنفاس وتلقي التدريب، فالثورة الاريترية جمعتها مع سودان النميري روابط الدين الإسلامي، واللغة العربية، والقبائل المشتركة، ورابطة مناهضة نظام الحكم الشيوعي في أديس بزعامة منقستو هايلي مريام.
حركة التحرر الوطني في الكنغو بقيادة لوممبا كانت من أولى الثورات الأفريقية التي دعمتها الخرطوم، التي تخطت سوابقها الثورية حدود جيرانها المباشرين، إلى دول أفريقية بعيدة، مثل جنوب أفريقيا التي قدمت الخرطوم لحركة التحرر فيها دعماً دبلوماسياً وسياسياً في كل المحافل الإقليمية والدولية، وخلال السبعينيات، تواجد العديد من منسوبي المؤتمر الوطني الأفريقي في الخرطوم، فضلاً عن فناني حركة التحرر ومطربيها أمثال مريم ماكيمبا، إلى جانب أن الخرطوم لم تقم أبداً علاقات مع حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
سوابق السودان في تغيير حكومات الدول المجاورة ليست جميعها ثورية خالصة، فتلك السوابق في بعض الأحيان تستحق صفة الانقلابية أكثر مما تستحق صفة الثورية، مثلما كان الحال مع حكومات أديس أبابا وحكومات أنجمينا، فحكومات الخرطوم المتعاقبة، أشرفت على تغيير الحكومات في إثيوبيا وتشاد، فنصبت منقستو هايلي مريام على أنقاض إمبراطورية هيلاسلاسي، وساندت زيناوي ليتسلم السلطة بديلاً لمنقستو، أما في تشاد، فقد وصل حسين هبري إلى السلطة في السبعينيات على ظهر الدبابات السودانية، ليسقط نظام الجنرال تمبل باي ونظام قبيلة السارا المسيحية، ويأتي نظام هبري وقبيلة القرعان المسلمة، ودارت عجلة الأيام والمواقف لتتضارب مصالح الخرطوم ثانية مع وجود حسين هبري في السلطة، مثلما حدث عندما تضاربت مصالحها مع منقستو، رغم أنها من أتت بالرجلين إلى السلطة، لتعود الخرطوم وتدعم إدريس ديبي الذي وصل إلى سدة الرئاسة في أنجمينا على ظهر دبابة سودانية، بديلاً لحسين هبري.
أكثر من سبب، وقف خلف تلك السوابق، خاصة الثورية منها، فبينما تنحصر أسباب السوابق الانقلابية للسودان في تضارب مصالحه مع سياسات ومواقف هذا النظام أو ذاك في دول الجوار، تتعدد دوافع ومبررات سوابق السودان الثورية، ويقول السفير الرشيد أبو شامة الخبير الدبلوماسي أن دعم السودان لحركات التحرر الوطني والثورات الأفريقية في الكنغو وجنوب أفريقيا وغيرهما وضع فرضه سبق السودان إلى نيل استقلاله قبل الدول الأفريقية جنوب الصحراء، ما جعله يتطلع لقيادة أفريقيا في معركة الاستقلال، خاصة خلال الخمسينيات، قبل أن تتوجه مصر عبد الناصر في الستينيات نحو أفريقيا.
وبينما وقفت أسبقيته في الحصول على الاستقلال، وطموحاته في القيادة وراء دعمه لحركات التحرر الوطني الأفريقية، حكمت الجغرافيا بوقوف السودان مع الثورة الإريترية كما يؤكد أبو شامة، فمن الناحية العملية، لم يكن للثوار الإريتريين فضاء جغرافيا يتحركون فيه، فأمامهم البحر وإثيوبيا، وخلفهم السودان، ما يعني أن المساحة الوحيدة المتاحة للحركة وعبور السلاح هي السودان الذي تعاطف فيه كثيرون مع الإريتريين، فضلاً عن تلقي الثورة الإريترية دعماً من بعض الدول العربية، كسوريا والسعودية، ما شكل عاملاً إضافياً دفع الخرطوم لدعم الثورة، اتساقاً مع مواقف الدول العربية.
دعم الثوار الليبيين إذاً، لم يكن السابقة الأولى التي يقف فيها السودان وراء هذه الثورة أو ذاك العمل المسلح لتغيير نظام الحكم، فتاريخ السودان منذ الاستقلال مليء بسوابق دعم الحركات الثورية والانقلابية، بعضها دعمه السودان لأسباب تتعلق بالأسبقية التاريخية والمشاعر والطموحات كالكنغو وجنوب أفريقيا، وبعضها بسبب أحكام الثقافة والجغرافيا كأريتريا، وبعضها الآخر بسبب مصالح السياسة ومكاسبها التي دفعت الخرطوم إلى الوقوف بقوة وراء الثوار.
[/JUSTIFY]
صحيفة الراي العام