صراعات على ألسنة المجالس

[JUSTIFY]ذات ليلة ، قبل نحو عامين أو أكثر، كان د.نافع علي نافع مساعد الرئيس يتحدث عبر هاتفه الشخصي، داخل أحد أروقة مجلس أحزاب حكومة الوحدة الوطنية، ويردد على مسامع محدثه عبارة (الأخ النائب) على نحو لا يخلو من احترام، في سياق يفيد أن (الأخ النائب) على علم بالموضوع المطروح في تلك المكالمة الهاتفية، حينها، كان ثمة حديث آخر يدور على أشده خارج مقر مجلس أحزاب حكومة الوحدة الوطنية الفخم بالعمارات، هناك في مجالس المدينة، حديث يجعل من يسمع د.نافع ليلتها في ذاك الرواق، يتحدث عبر هاتفه الجوال بتلك الطريقة التي تنم عن وفرة الانسجام والاحترام مع (الأخ النائب)، يتساءل في قرارة نفسه: هل ما تردده مجالس المدينة عارٍ من الصحة، أم أن بعض الخلافات والصراعات تبقي مكتومة حتى داخل الدائرة الضيقة المحيطة بها، بل بين أطراف الصراع ذاتها، ويظهر كل منهما لصاحبه كأنه ولي حميم..؟

الأحاديث والأقاويل عن صراع مكتوم بين علي عثمان محمد طه نائب الرئيس و د.نافع علي نافع مساعد الرئيس لم تعد سراً منذ وقت طويل، فمجالس المدينة، ودكاكينها، وحتى أسواقها ومواصلاتها العامة، ترددت فيها كثيراً تلك الأقاويل، وباتت تكتسب المزيد من الزخم مع كل تشكيلة وزارية جديدة، ومع كل مؤتمر أو جولة مفاوضات يشارك فيها نائب الرئيس أو مساعده، لتبدأ الألسن في الحديث، ورسم سيناريوهات عديدة لمسارات الصراع، وتأخذ في تحديد الطرف الغالب، والمغلوب، من وحي تلك التعديلات والتنقلات.

ما أضفى المزيد من الزخم على تلك الأقاويل، كان الصمت الرسمي عن تلك الأحاديث، صمت فسره البعض بأن الأحاديث ضعيفة لدرجة أنها لم تنتهى إلى مسامع من يهمهم الأمر، أو أنها أضعف مصداقية وسنداً من أن تحمل رجلاً تمتلئ أجندته بالمهام والمشاغل كعلي عثمان، أو نافع، على الرد عليها أو وضع نهاية لها، في المقابل، اعتبر آخرون ذلك الصمت الرسمي دليلاً على جدية تلك الأحاديث، ومحاولة من يهمهم الأمر تجاهلها.
أول من كسر جدار الصمت، من ساسة الصف الأول، كان د.حسن الترابي الذي قال مخاطباً الصحفيين قبل فترة قصيرة في معرض تعليقه على أحد تصريحات د.نافع: (وجميعكم تعلمون الخلاف بينه وبين الآخر).
ذاك الصمت، أو التجاهل إن شئت، انتهى الأسبوع الماضي، عندما ظهر د.نافع بعمامته وجلبابه عبر شاشة تلفزيون النيل الأزرق، وأكد عدم وجود خلاف بينه وبين علي عثمان، بل زاد أن الأخير أكثر منه خبرة وأكثر دراية، وإن كان كلاهما من كنانة واحدة.
أحاديث المدينة لم تقتصر على خلاف طه ونافع، وتعدته إلى أخرى منها صراعات فعلية خرجت مظاهرها للعيان، ومنها صراعات بقيت داخل دائرة الظنون، ومن الصراعات التي ترددت مؤخراً في مجالس المدينة صراع قوش ونافع، والصراعات داخل المؤتمر الوطني قبيل الانتخابات، لكن الصراع الأبرز في الإنقاذ، والذي لم تكف مجالس المدينة الخوض فيه حتى الآن، كان بالطبع صراع البشير مع الترابي، الذي تردد صداه داخل الدائرة المحيطة أولاً، قبل أن يخرج بطريقة درامية للعلن.

الإنقاذ، ليست العهد السياسي الأول الذي كثرت فيه الأقاويل عن الصراعات والخلافات، ففي مايو خاضت مجالس المدينة في الكثير من الصراعات، أولها ما تردد عن صراع مجموعة أحرار مايو بقيادة نميري مع مجموعة الشيوعيين، ثم صراع نميري مع أحرار مايو أنفسهم، والاستقالات المفاجئة التي تقدم بها مأمون عوض أبو زيد واللواء خالد حسن عباس وآخرون، فضلاً عن أحاديث كثيرة دارت عن صراعات داخل الاتحاد الاشتراكي بين تيار اليمين الذي حسبت عليه شخصيات مثل د.منصور خالد وعمر حاج موسى، وتيار اليسار الذي حسبت عليه شخصيات مثل أحمد عبد الحليم وبدر الدين سليمان.
ما تسميه مجالس المدينة صراعاً، ليس في الكثير من الأحيان سوى خلافات طبيعية بين رجال السياسة كما يقول د.الطيب زين العابدين المحلل السياسي، فنافع على سبيل المثال ربما يرى في اتفاق أديس جوانب إيجابية، ويراه آخرون مجرد تنازلات، ويتابع أن طبيعة العمل السياسي المستمرة والمتغيرة تفضي بالضرورة إلى الاختلاف، اختلاف قد يصل حد الصراع إن كان هناك تنافس بين مراكز القوى على السلطة أو المراتب والدرجات، أما السبب الآخر لتحول الخلافات في الإنقاذ إلى صراعات فهو ضعف المؤسسية، ويرى زين العابدين أن هناك تنافساً غير معلن بين نافع وعلي عثمان، وأن الصمت الذي لف الأمر طيلة السنوات الماضية مرده طبيعة المؤتمر الوطني، التي يصفها بالشمولية.

شمولية المؤتمر الوطني، إن كان كذلك بالفعل، لم تمنعه من الاعتراف بوجود خلافات داخله في أكثر من مناسبة، صراحة وضمناً كما حدث عندما شارك البشير بنفسه في تصفية الأجواء بين عبد الباقي علي ووالي الجزيرة البروفيسور الزبير بشير طه، كما أن رئيس المؤتمر الوطني وقيادات أخرى سبق لها أن اعتبرت اختلاف الرأي دليل صحة حزبية وسياسية.
اللافت، أن الصراعات التي تخوض فيها مجالس المدينة، ليست داخل السلطة وحدها، فحتى المعارضة نالت نصيبها من تلك الأقاويل والأحاديث، ومثلها مثل خلافات السلطة وصراعاتها، فيها ما ولد من رحم الظنون، وفيها ما أكدته الأحداث، فيسمع المرء في مجالس المدينة عن خلافات بين الاتحاديين على المشاركة في السلطة، وصراعات داخل حزب الأمة حول صلاحيات وتوجهات رئيسه، بل يمكن أن تسمع عن صراع داخل أحد أحزاب (الفكة).
هناك من يستغرب اهتمام المجالس بصراعات السياسة وصدامات مراكز القوة والنفوذ، على اعتبار أن الصراع، والمنافسة، والاختلاف، والتدافع، جميعها جزء من طبيعة العمل السياسي، وطبيعة الناس . يقول د.صفوت فانوس المحلل السياسي إن الصراعات السياسية ظاهرة مألوفة في كل دول العالم، تتسق مع طبيعة الحياة والسياسة، ويضرب مثلاًَ بصراع سوزان رايس وهيلاري كلنتون وزيرة خارجية واشنطن مع سكوت غرايشون المبعوث الأمريكي السابق في السودان، وصراعات الكونغرس مع الرؤساء الأمريكيين، ويتابع أن ضعف المؤسسية يجعل حسم هذه الصراعات في السودان مبنياً على النزعات الشخصية.

مجالس المدينة، لا تكتفي ألسنتها بصراعات السلطة والسياسة فقط في واقع الأمر، وتتعداها إلى الكثير من الأشياء والمواضيع، لكن المتابع لتلك الأحاديث، يلحظ ولعاً خاصاً بتناقل أخبار السلطة والأقاويل عن صراعاتها، أقاويل لا يبدو أنها ستتوقف تماماً، ولو حاول من يهمهم الأمر ذلك عبر نفيها.
[/JUSTIFY]

صحيفة الرأي العام

Exit mobile version