طبعاً هذا تصريح الصادق في اليوم السابق لكتابتي هذا المقال لكني لا أدري بما يصرِّح به في اليوم التالي.. فالإمام له تصريح وقول يومي ورأي في كل ساعة حول أية قضية تنشأ في السودان أو في العالم أجمع.. لكني أكاد أجزم أنه لم يخرج في أيٍّ من هذه القضايا عن مسلكه القديم المتجدِّد منذ أن ولج عالم السياسة وهو لا يزال في شرخ الشباب بمنصب رئيس الوزراء الذي تقلَّده خلفاً لداهية السياسة والبيان والفصاحة والدبلوماسية السيد محمد أحمد محجوب الذي لم يُسعفْه أو يسندْه جاه أو صفة ابن الأكرمين!!
أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ تصريح الصادق المهدي ذلك السؤال الذي ظلّ لا يفارقني في يوم من الأيام: تُرى من أوحى للصادق المهدي بذلك الرأي الذي طرحه «قطع أخضر» بدون أن نسمع عن اجتماع لمكتب قيادي لحزبه أو لمجلس شورى أو لجنة مختصّة وإنما قرار يصدر من فم الزعيم ويتجدَّد يومياً في كل شأن وكل قضية كما لو كان الوحي يتنزل على الرجل حاملاً الحكمة والرأي السديد المحتكَر للإمام الذي أُوتي جوامع الكلم ومُنح التفويض المطلق ليصدع بما يراه بلا معقِّب لحكمه ولا مستدرك أو ناصح وهل يُنصح أصحاب الحق الإلهي؟!
لكن بالله عليكم دعونا نفكك رأي الإمام لنخرج منه بشيء مفيد، فالرجل ينادي ويدعو إلى تكوين مجلس انتقالي قومي من الشريكين والقوى السياسية!! لكن من تُراه يشكِّل ذلك المجلس وما هي القوى السياسية التي يضمُّها وما هي نِسب المشاركة لكلٍّ من تلك القوى وهل تضم الثمانين حزباً المسجَّلة لدى مسجِّل الأحزاب وأين موقع الحركات المسلحة سواء الدارفورية أو الجنوبية وماذا يعني الرجل بعبارة للاتفاق على «إقامة مشورة شعبية» والتي حُدِّدت أصلاً بموجب الدستور والقانون الذي ينتهي بنهاية الفترة الانتقالية بعد أقل من شهر؟!
يقول الإمام إنه بعد أن يجتمع المجلس الانتقالي من الشريكين والقوى السياسية «يجتمع العقلاء لوضع نظام جديد»!!
عليكم الله هل فهمتم شيئاً؟! من هم أولئك العقلاء الذين يتحدَّث الإمام عنهم أو يقترحُهم وعن أيِّ نظامٍ جديد يتحدَّث؟!
إنه كلام والسلام، فهل بربِّكم من عاقل فهم شيئاً من هذه العبارات المرصوصة بلا هدف أو مضمون؟!
إذا كان ذلك الخبر قد نُشر في «الصحافة» فإن صحيفة «الوطن» الصادرة في نفس اليوم «8/6/1102» أوردت الخبر وزادت عليه أن الصادق المهدي طالب بسحب الجيش السوداني من أبيي.. يا سبحان الله!! إذن فإن الصادق يتّخذ موقفاً محايداً من النزاع حول أبيي بين القوات المسلحة السودانية وبين جيش دولة الجنوب وبين الشمال والجنوب!! العصا من النصف حتى عندما يكون الأمر متنازَعاً عليه بين بلاده ودولة أجنبية تسعى لضم جزء من وطنه بالرغم من علمه أن ذلك يصيب حزبه في مقتل ويؤثِّر على شعبيته تأثيراً هائلاً خاصة بين المسيرية.
الإمام يعلم أن منبر السلام العادل ظل يدعو إلى جمع الصف الوطني خاصةً أهل القبلة وسعى للتقريب بين الوطني والأمة القومي والاتحادي الأصل ولا يزال يشعر بأن السودان يحتاج إلى إجماع وطني لمواجهة الأخطار التي تتهدَّد بلادنا لكن تردُّد الصادق هو الذي يعوِّق أيَّ تقارب بين أهل القِبلة.. وكذلك تصريحاته التي كثيراً ما تباعد بينه وبين أهل القبلة!!
يعلم الصادق المهدي كذلك أن بعض قيادات حزبه وخاصةً ابنته مريم منحازون إلى معسكر بني علمان الذي يضم عرمان وأبو عيسى والمزروع كمال عمر وهو ما يتناقض تماماً مع مرجعية حزبه القائمة على تراث المهدية ونهج الصحوة التجديدي الذي طرحه الإمام على الساحة السياسية منذ عشرات السنين وإذا كان الإمام قد طرح رؤيته هذه خلال حكومته السابقة في ثمانينات القرن الماضي فإن ابنته مريم كانت حينها صبية لم تندرج في إطار مرجعية حزبه لكنها شبّت ونضجت خلال سني الإنقاذ على غير المرجعية التي تبنّاها والدُها وكان من سوء حظ الوالد أنها وجدت أمامها عرمان الذي كانت أقرب إلى علمانيته منها إلى مرجعية والدها وتراث آبائها وأجدادها وخاصة جدها الكبير.. ولست أدري والله ما يفعل الصادق مع ابنته التي تهيئ نفسها لخلافته وهو يخطو نحو الثمانين فهي أقرب إلى بنازير بوتو بل إنها صرّحت بأنها تتطلَّع لأن تكون مثلها ومعلوم أن بنازير بوتو لا تمتّ إلى المرجعة الإسلامية بِصِلة تماماً كوالدها ذي الفقار علي بوتو.
صحيح أن الصادق محاصَر بين إرثه الذي يشدُّه إلى ماضي الأجداد وتراث الأنصار خاصةً بعد أن حسم أمره وأعلن نفسه إماماً للأنصار مما ألقى عليه المزيد من القيود وبين نزوع علماني مركوز في شخصيته التي تأثرت منذ شبابه الباكر بكلية فيكتوريا ثم أكسفورد التي سعى الإنجليز من خلالها إلى إخراجه من مرجعية جده الأكبر الإمام المهدي ومعلوم أن الصادق والملك حسين بن طلال وعددًا من أبناء الزعامات العربية التي كانت مرشحة لتلعب دورًا سياسيًا في مستقبل دولها تلقَّوا جرعة من الثقافة الغربية المناهضة منذ صباهم الباكر في كلية فكتوريا بالإسكندرية لكن الصادق لا يملك بسبب قيد الإمامة أن يخرج على مرجعية الأنصار فهلاّ حسم قضية المرجعية الفكرية داخل حزبه وبيته خاصةً بناته اللائي لا يجدن أنفسهنَّ جزءاً من تراث الآباء والأجداد!![/JUSTIFY]
الطيب مصطقى
صحيفة الانتباهة