و تجدر فى هذا السياق الاشارة الى ما كان اورده المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ، لويس مورينو اوكامبو فى تقريره الاخير امام مجلس الامن فى يونيو الماضى عن «وجود ادلة على وجود خطة اجرامية تقوم على تعبئة كامل جهاز الدولة بما فى ذلك القوات المسلحة و دوائر الاستخبارات ، والبيروقراطيات الديبلوماسية والاعلامية و نظام العدالة» . و قد اتبع اوكامبو فى تقريره هذه الفقرة بأخرى غاية فى الخطورة و الدلالة على ما يمكن ان يجرى من مآلات اذا ما تبنت الدول ذات الشأن فى العالم الى جانب الامم المتحدة رؤيته تلك، حيث شبه ما اعتبره استراتيجية عسكرية للحكومة السودانية للتطهير العرقى فى دارفور بما فعله رئيس صرب البوسنة السابق رادوفان كراديتش حينما امر قواته فى مارس 1995 بالقيام بهجمات تخلق حالة لا تطاق من عدم الامن فى اقليم سربنتشا، الذى تقطنه اغلبية مسلمة ، مبينا ان منع المعونات الانسانية كان جزءا من تلك الاستراتيجية . و قد مضى اوكامبو فى ذلك التقرير للاستشهاد بتقارير وكالات الامم المتحدة المختلفة و مسؤوليها العاملين فى اقليم دارفور المضطرب و تصريحات كبار المسؤولين فى الحكومة السودانية فى سياق تعضيده لتلك الاتهامات ، و كان واضحا محاولات اوكامبو من اجل استثارة حفيظة و تعاطف الرأى العام الدولى مع ما يسرده من وقائع من اجل حثهم على اتخاذ قرار شجاع لفعل ما، من اجل جلب من يعتبرهم مسؤولين عن خلق ذلك الواقع فى دارفور الى العدالة الدولية .
و يمثل تشبيه اوكامبو لسلوك الحكومة السودانية فى دارفور بما اقترفه صرب البوسنة وزعيمهم رادوفان كراديتش الذى ألقى القبض عليه الشهر الماضى، نقلة نوعية فى مسار تقاريره المقدمة الى مجلس الامن ، فإذا كان فى تقاريره الخمسة الاولى التى قدمها الى المجلس منذ احالته للوضع فى دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية فى مارس 2005 بموجب القرار 1593تحت الفصل السابع، يستعرض فيها مسار تحقيقاته و يشيد بتعاون الحكومة السودانية مع مكتبه ، الا انه فى تقريره السادس فى ديسمبر 2007 ولاول مرة ذكر ان الحكومة السودانية لم تعد تتعاون مع مكتبه و لكن رغم ذلك فإن لهجته كانت اخف بما لايقاس عن مضمون ما ورد فى تقريره السابع المشار اليه آنفا، وهو التقرير الذى كان مثار نقد عنيف من قبل اثنين من ابرز النشطاء و الخبراء الغربيين فى دارفور هما البريطانيان ، اليكس دوال و جولى فلنت، و ذلك فى المقال الذى نشراه بصحيفة الواشنطن بوست فى يونيو الماضى فقد رفضا الوصف الذى رسمه اوكامبو فى تقريره لما يجرى فى دارفور رغم ان اليكس و جولى كانا من اوائل الغربيين الذين وثقوا لما جرى من انتهاكات فى الاقليم، و ذلك فى كتابهما الموسوم «دارفور تأريخ حرب و ابادة» و اعتبرا فى المقال المشار اليه آنفا ذلك الوصف نوعا من المبالغة، اراد به اوكامبو دعم موقفه امام الرأى العام الدولى و حشده لخطوته المرتقبه التى ينوى فيها اعلان اسم شخصية كبيرة فى الحكومة السودانية كمتهم بجرائم فى دارفور «أبرز أوكامبو وهو يخاطب مجلس الأمن يوم 5 يونيو وصفاً لدارفورلا نعترف به، فقد تحدث عن مشهد جريمة واسع ووحيد حيث حشدت كل أجهزة الدولة السودانية لتقضي على كل المجموعات قضاءً جسدياً وذهنياً ، وقال إنه يسعى لمقاضاة مسؤول حكومي كبير الشهر القادم، وحسب استنتاجنا فقد يكون هذا المسؤول هو البشير». و رغم وصف الكاتبين للحكومة السودانية بأنها «مافيا متوحشة» و لكنهما يقطعان بأنها هجرت منذ حين خطتها الرامية الى تغيير خارطة البلاد الاثنية و الدينية، لذا فإنهما رفضا بقوة ما اعتبره اوكامبو فى تقريره سياسة منهجية من الحكومة فى دارفور من اجل تنفيذ تلك الخارطة « الخرطوم بابتزاز أخلاقي وقح، تتهم أوكامبو بالتحريض على نشوب حرب جديدة، فعلى الحكومة السودانية أن تلوم نفسها فقط فيما يتعلق بالمصاعب التي تواجهها. ولكن مدعي المحكمة الجنائية الدولية مخطيءٌ أيضاً، فجرائم جمة ارتكبت في السودان لكن استئصال المجتمعات المنهجي لم يكن من بين هذه الجرائم اليوم» .
لكن الواضح ان انتقادات اليكس دوال و جولى فلنت ضاعت وسط حالة الزخم التى استطاع مدعى المحكمة الدولية ان يحدثها عندما رفض الانصياع للضغوط الدولية التى مورست عليه من اجل عدم اعلان مسؤولين على مستوى عال فى الحكومة السودانية ، و قدم طلبه فى يوليو الماضى طالبا توجيه الاتهام ضد الرئيس البشير ، وهو الاعلان الذى حذرت الحكومة السودانية على اعلى مستوياتها من عواقبه ، و ذكر مندوبها الدائم بالامم المتحدة ان الحكومة تعتبر صدور مذكرة اعتقال بحق الرئيس من قبل قضاة المحكمة واية محاولة لتنفيذها بمثابة «اعلان حرب ضدها». و ذكر وزير الدفاع لاحقا ان القوات المسلحة تعتبر استهداف الرئيس و قائدها العام «خطا احمر» بينما شدد رئيس هيئة الاركان المشتركة ان «الجيش سيستخدم القوة للدفاع عن الرئيس و قائده العام» ، لكن رغم تلك الاشارات الواضحة من الحكومة السودانية فإن المجتمع الدولى و بالاحرى الدول ذات الشوكة فيه، لم تبد اعتبارا لذلك، و لم تسعَ من اجل احتواء خطوات المحكمة الجنائية الدولية ، حيث تم التجديد لبعثة حفظ السلام المشتركة بين الامم المتحدة و الاتحاد الافريقى «يوناميد» من قبل مجلس الامن هذا الشهر دون اعتبار كبيرللمخاوف التى ابدتها بعض الدول الاعضاء فى المجلس من التداعيات التى يمكن ان تحدث فى مسار العملية السلمية بدارفور نتيجة لمذكرة المدعى العام الدولى بحق الرئيس البشير ، بينما نصحت الادارة القانونية بالمنظمة الدولية امينها العام بان كى مون بالنأى عن الرئيس البشير ، و قد اكد كى مون نفسه لصحيفة الاهرام هذا الاسبوع من انه واثق من ان المحكمة الجنائية الدولية ستنفذ قرارها المتعلق بالرئيس البشير، و بدت تأكيدات الامين العام للمنظمة الدولية تلك مستغربة لجهة ان الامر بيد قضاة المحكمة حتى الآن وأنهم لم يصدروا قرارهم بعد بمقبولية دعوى اوكامبو او رفضها ، ما يشى ان تدابير فى الخفاء تمضى من اجل احكام الخناق على مسؤولى الحكومة السودانية ، خاصة و ان المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية تحدث فى تقريره لمجلس الامن، وفى مذكرة طلب الاتهام عن ضلوع كامل جهاز الدولة فى تنسيق الجرائم المدعى ارتكابها فى دارفور ، بما يقطع ان هناك اشخاصا اضافيين فى قائمة اوكامبو سيتم الدفع بهم فى مراحل لاحقة ، و كان المحلل السياسى ، الدكتور حسن مكى، قد ذكر فى حوار مع صحيفة «ايلاف» الاسبوعية قبل نحو عام و نصف العام، ان «عظمة كبيرة من قيادات الانقاذ مستهدفة بمحاكمات لاهاى» و توقع مكى ان تطال تلك المحاكمات بصورة اكبر القيادات العسكرية و الامنية . و تعزز تلك الاحتمالات عن تدابير تمضى فى الخفاء، ما كان ذكره ممثل الامين العام للامم المتحدة للسلام فى السودان ، اشرف قاضى فى مؤتمره الصحافى الذى عقده بالخرطوم الاسبوع الماضى عن «استعدادهم لاية تداعيات تنجم عن صدور مذكرة اعتقال ضد الرئيس البشير من قبل قضاة لاهاى « و قد عاد الرجل ليذكر بوضوح فى تقريره امام مجلس الامن الدولى هذا الاسبوع ان الحكومة نقلت له تحذيرات بأن اصدار امر اعتقال ضد الرئيس البشير سيكون له عواقب وخيمة على موظفى الامم المتحدة و بنيتها التحتية فى السودان» و لكنه مع ذلك اكد من منبر مجلس الامن استعداد بعثته لمواجهة اية احتمالات لاجراءات عنيفة ضد بعثته .
و يتوقع محللون انه اذا ما صدر قرار من قضاة المحكمة الجنائية الدولية بإدانة الرئيس البشير و مسؤولين كباراخرين من الحكومة، ان يصدر مجلس الامن الدولى قرارا يمنع فيه ترشحهم فى الانتخابات القادمة نظرا لاتهامهم بارتكاب جرائم ابادة و جرائم حرب و جرائم ضد الانسانية، وهى جرائم تدخل فى نطاق تصنيف المجلس بأنها تهدد السلم و الامن الدوليين و بالتالى فإن مرتكبيها المزعومين وفقا لذلك التصنيف، يهددون السلم و الامن الدوليين ولا يجب تمكينهم من السلطة مجددا ، وان اى اتجاه لترشيحهم من شأنه ان يجعل المجتمع الدولى يعتبر نتائج الانتخابات غير شرعية، وبالتالى ينسحب عدم الشرعية ذاك على النظام الذى ستأتى به ، و قد طبق مجلس الامن ذلك السيناريو كما اشار اليه الخبير بالمنظمة الدولية ، الدكتور اسامة عثمان فى مقالاته التى تنشرها «الصحافة» هذه الايام بقراره1592 الصادر في 30 مارس 2008، و الذى يتعلق بجمهورية الكنغو الديقمراطية وتنظيم الانتخابات فيها وضرورة مراجعة سجلات المترشحين لكافة المستويات وحرمان من عرفوا بانتهاكهم لحقوق الإنسان وارتكابهم جرائم حرب من المشاركة .
و ازاء هذه الاحتمالات المتبادلة بين الحكومة و المجتمع الدولى، دعا المسؤول السابق بمجلس الامن القومى بإدارة الرئيس الامريكى الاسبق بل كلنتون ، جون برندر قاست و مدير برنامج «كفاية» فى تقرير اصدره البرنامج نهاية يوليو الماضى الولايات المتحدة و فرنسا و بريطانيا الى تجاوز المنظمة الدولية و مجلس الامن اذا ما واجهوا اية عراقيل لتنفيذ قرارات المحكمة الدولية من قبل دول مثل الصين و روسيا ، و ذلك باللجوء الى حلف الناتو كما فعلوا من قبل فى حالة يوغسلافيا السابقة، والتى كان قادتها متهمين بارتكاب ذات الجرائم التى يدعى ان الحكومة السودانية ارتكبتها فى دارفور. و كان خيار تدخل الناتو فى دارفور قد نادى به صقورالادارة الاميريكة السابقة بقيادة كلنتون، وذلك فى مقال مشترك كتبه كل من سوزان رايس و انتونى ليك و النائب بالكونغرس دونالد بين قبل نحو ثلاثة سنوات، و ذلك لوقف ما اطلقوا عليه ابادة جماعية فى دارفور، و يتوقع فى حال فوز المرشح الديمقراطى باراك اوباما فى الانتخابات الرئاسية القادمة و الذى يتبنى شعار ضد حدوث جرائم ابادة جماعية فى فترة حكمه ، ان يأتى هذا الطاقم لقيادة السياسة الخارجية الامريكية ، و كان الرئيس البشير و عدد من قيادات الانقاذ قد عبروا فى اوقات مختلفة عن تفضيلهم للادارة الجمهورية الحالية عن الديمقراطيين الذين قال انهم كانوا يحاورننا بالصواريخ، فى اشارة لضرب مصنع الشفاء فى العام 1998 !!
الصحافة [/ALIGN]